مستجدات التعليم بالمغرب وجهة نظر

في الفرق بين المدرسة و “الكروسة “

بقلم حميد بن خيبش
كشفت الأحداث الأخيرة المرتبطة بالعنف داخل المؤسسات التعليمية أن اللحاق بركب التقدم غير مرتبط بارتفاع مبيعات الأجهزة الإلكترونية، أو بالتهافت الشعبي على وسائط التواصل الاجتماعي بقدر ما هو مرتبط بزيادة منسوب الوعي بالمشكلات الاجتماعية وسبل حلها. فنحن نعاين يوميا عبر الإعلام “البديل “،الذي يتطوع الملايين عبر العالم لتوفير مادته وتوزيعها، نماذج من الرقي السلوكي في العلاقة مع الآخر، سواء كان بشرا أو حيوانا أو حتى فضاء عاما، ثم نخفي حسرة وألما عميقين إزاء ما تضج به شوارعنا وأحياؤنا ومدارسنا من صور الهبوط القيمي والتردي الأخلاقي !
وفيما يتصل بالمؤسسة التعليمية فإن جزءا كبيرا من مشاكلها وهمومها وثيق الصلة بالتمثلات السائدة لدى فئة عريضة من المجتمع حول وظيفة المدرسة وأدوار المدرس. بمعنى أن المجتمع بحاجة إلى إعادة تشكيل تصورات ومواقف جديدة، تتناسب وحجم الإكراهات التي ترزح تحت وطأتها المدرسة العمومية، حتى لا تتم إدانتها ونصب المشانق للعاملين فيها كلما وقعت واقعة !
إن من العبارات المثيرة للاستفهام، و الغيظ أحيانا عند ورودها بصيغة الإلزام في المذكرات الرسمية، تلك المطالِبة بانفتاح المدرسة على محيطها، دون أن نسائل هذا “المحيط” حول أهليته لهذا الانفتاح، واستعداده لشراكة إيجابية فاعلة، عوض الاستفزاز اليومي وتعنيف المدرسة ب”من” فيها و”ما” فيها ! إذ الأمر لا يتعلق بعربة أو “كروسة “يجرها المدرس بمفرده أو تحت “سلطة” المدير، وإنما بمشروع مجتمعي يتحمل الكل مسؤولية نجاحه أو إخفاقه.
صحيح أن وظيفة المدرس كما يجري تمثلها لدى معظم المغاربة، هي أن “يربي” أو “يعلم”، لكن ضمن أية شروط وبأية وسائل؟ إن حجرة دراسية تفتقر للنور و التهوية، وتكتظ بعشرات الأجساد الصغيرة و المنهكة لا يمكن أن تشكل فضاء مناسبا لتلقين مبادئ التربية و التعليم.
و الوحدة المدرسية المشيدة على شفا جرف أو بمحاذاة مقبرة، لن تخلف في نفس العامل أو العاملة فيها غير آثار القهر النفسي و الاستبعاد الاجتماعي. وقس على ذلك عشرات الأمثلة التي يعاينها رواد الجبال و الوهاد و الصحاري، وأحزمة البؤس الاجتماعي في مختلف مناطق المغرب. فهل يمكن للوضع المائل أن يعطي نتائج قويمة؟ أشك في ذلك !
لن أحمل المسؤولية للوزارة الوصية بمفردها، وإن كنت أعترض بشدة على خطاب القشدة و العسل الذي لا يلقي بعض مسؤوليها بالا لتبعاته، حين نوهم المغاربة أن كل مؤسساتنا التعليمية سواسية كأسنان المشط، وأن لا شيء ينقصها سوى النظر في الوجه العزيز، بل سأوسع الدائرة قليلا ليتحمل الجميع وزر دفع “الكروسة ” للأمام أو للخلف، كما يريد !
ما من مؤسسة تعليمية إلا وتقع في دائرة نفوذ جماعة ترابية، حضرية أو قروية. مما يعني أن هذه الأخيرة تتحمل قسطا من المسؤولية في تعزيز ودعم تمدرس أبناء المنتخبين الذين وعد الرئيس وبطانته بخدمتهم. لكن واقع الحال يكشف عن تجاهل وتماطل ولامبالاة عجيبة. فالمبادرات وصور الشراكة الفاعلة التي تحققت حتى الآن مدعاة للخجل و الحسرة، ولا تحيد عن دائرة الاستهلاك الإعلامي و الانتخابي الضيق. إن مما يخلف الاستياء ويضفي على عدد من المبادرات طابعا فلكلوريا هو أن يتم التعامل مع المدرسة كواجهة فحسب، يتم طلاؤها وتزيينها في مناسبات خاصة، بدل أن يتم استيعابها كعامل أساسي في الحفاظ على الخصائص السوسيو ثقافية للمجال الترابي الذي تتواجد به. لقد آن الأوان لأن تبادر كل جماعة حضرية أو قروية إلى وضع تصورها الخاص لوظيفة المؤسسات التعليمية في دائرة نفوذها، وأن تنخرط بفاعلية في مواجهة إكراهات التمدرس ضمن مبادرات متحررة من هاجس الولاءات الضيقة.
وبفضل تزايد الاهتمام بالمجتمع المدني في الأجندات الحكومية فقد شهدنا في الآونة الأخيرة تمددا كميا ونوعيا في النسيج الجمعوي، وإقبالا ملفتا من لدن الجمعيات و المنظمات غير الحكومية على تأسيس شراكات مع المؤسسات التعليمية، ودعم التمدرس من خلال مبادرات إحسانية وترفيهية مشكورة. إلا أن الخطوة التي لم تحظ بالاهتمام بعد هي الرفع من منسوب الوعي في محيط المؤسسات التعليمية، وتنظيم حملات تحسيسية تعزز رصيد القيم، وتبدد التمثل الخاطئ الذي يعتبر المدرسة مرفقا حكوميا يتحمل “المخزن” مسؤوليته بمفرده !
كما يقع على عاتق المقاولة المواطنة واجب الإسهام في حل مشاكل المنظومة التعليمية، وتحرير المشهد التربوي عموما من شكوى الإنفاق الحكومي إلى بحث سبل استثمار جاد في الرأسمال البشري. فتسخير التكنولوجيات المنقولة لأغراض التعلم على سبيل المثال لا يمكن النظر إليه كخدمة تعليمية فحسب، بل قد يسهم على نحو مثير في اكتشاف وتحرير مواهب وطاقات يتم استيعابها لاحقا كعائد ومكسب للمقاولة الحاضنة !
ولاتزال كثير من الأسر المغربية، للأسف الشديد، تؤمن بأن دور المدرسة هو تطويع وقولبة المادة الخام لتزويد سوق الشغل بمنتوج عالي الجودة وبمقاييس دولية ! وكل خلل أو نقص في الجودة تؤدي المدرسة تكاليفه. و ترتب عن هذا التصور الخاطئ تراجع الدور التربوي للأسرة مقابل الاكتفاء بتأمين احتياجات الطفل المعيشية، مما عزز لاحقا الموقف السلبي تجاه المدرسة باعتبارها الفضاء الوحيد المسؤول عن التنشئة الاجتماعية. ولتبديد هذا الوهم فإن الحاجة باتت ملحة لاستعادة الأدوار الفعالة للأسرة في مجتمعنا المعاصر، واعتبار العلاقة الأسرية السليمة مدخلا حيويا، يتيح للطفل اندماجا أفضل في بيئة التعلم.
إن تثقيف الآباء وإشراكهم في التصدي للتحولات الاجتماعية التي تنعكس سلبا على المسار التعليمي لصغارهم سيسهم، ولاشك، في تحرير المزاج العام من السلبية، والاكتفاء بالتنديد وإلقاء اللوم على الآخر أو على الظروف، وفي أحيان كثيرة على الزمان الذي لو نطق لهجانا ! 

مواضيع مشابهة

أضف تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

Back to top button