الإزدواجية اللغوية و علاقتها بالتحصيل الدراسي لدى التلميذ الأمازيغي في الوسط القروي – المستوى الأول نموذجا –
دراسة ميدانية من انجاز الأستاذ : محمد رضوان الخياطي
إجازة في علم النفس الإجتماعي
لقد أصبح من البديهيات الجزم بالدور المحوري الذي تلعبه المدرسة إلى جانب الأسرة في تفتق شخصية الطفل ونموه المعرفي, فهما تشكلان النواة الأولى في التنشئة الإجتماعية للطفل من خلال تفاعل هذا الأخير مع أفراد أسرته من جهة , وبجماعة أترابه و أساتذته بالمدرسة من جهة أخرى.
وتناولنا لإشكالية علاقة الإزدواجية اللغوية بالتحصيل الدراسي يجد مسوغته أساسا من الضرورة الملحة التي فرضتها حالة المخاض العسير التي كانت ومازالت تعيشه منظومتنا التربوية جراء جملة من الإختلالات ,إن على المستوى البنيوي أو على المستوى الوظيفي, الشيء الذي انعكس على جودة التعليم وجعل المغرب يتخبط في الرتب الأخيرة في التقارير الدولية للفعالية والجودة التعليمية.
وفي هذا الصدد, ارتفعت أصوات تشكو وتحذر من تبعات الإزدواجية اللغوية على التحصيل الدراسي للتلاميذ الأمازيغ في المدرسة الابتدائية المغربية, مستندة إلى أنه إذا كان الطفل المغربي الناطق بالعربية-الدارجة يجد صعوبة كبيرة في تعلم اللغة الفصحى رغم التقارب الموجود بين لغته اليومية العامية و بين اللغة العربية الفصحى, فإنه مما لاشك فيه أن الطفل الأمازيغي سيجد صعوبات أكثر حدة وخطورة لأنه لا يعاني فقط من ازدواجية اللغة, بل ويجد نفسه أمام اقصاء لذاته وثقافته على اعتبار أن الإقصاء للغته إقصاء لهويته وكينونته في الوقت نفسه.
إن المتعلم المنحدر من أصول أمازيغية و الذي لم يحتك باللغة العربية باعتبارها لغة التعلم في نظامنا التعليمي إلا عن طريق ما سمعه من بضعة كلمات على شاشة التلفاز أو عن طريق أحد أقربائه القادم من المدينة, و هو ُيقبل على ولوج عالم المدرسة لأول مرة يعيش حالة من الذهول و الإستلاب من الوهلة الأولى التي تطأ قدماه أبوابها , الشيء الذي يتعمق أكثر فأكثر عند مواجهته لمقررات دراسية, تجعله يعيش تلك اللحظات التي يقضيها داخل أسوار فصولها الدراسية في غربة و انسلاخ عن ثقافته و لغته الأم, مما سيكون له انعكاسات سيكولوجية على شخصيته سواء على المدى القريب أوعلى المدى البعيد بسبب هذه الإزدواجية اللغوية المفروضة عليه.
ولا تعني اللغة الأمازيغية بالنسبة للمتعلم الأمازيغي اللغة المنطوقة فحسب, بل هي اللغة التي رضعها الطفل من ثدي أمه، ونسج بها كلماته وجمله الأولى التي نطق بها لأول مرة واستعملها في صباه داخل البيئة التي يعيش فيها بكل مكوناتها الثقافية والحضارية ، إذ تحوي اللغة والكتابة والهوية والثقافة والحضارة والكينونة.
وعلى النقيض من الطرح السابق برز باحثون آخرون, بعضهم من جلدة أمازيغية, شددوا على الدور الإيجابي للإزدواجية اللغوية على التحصيل الدراسي ، من خلال كون ازدواجية اللسان تعزز القدرة العقلية, معللين ذلك بكون الأطفال المولودين في بيئة ثنائية اللسان يميزون بين اللغات مبكرا أي بعد ساعات من ولادتهم، كما ينفون وجود أي دليل على أن اكتساب الأطفال للغتين يؤدي لارتباكهم أو تأخرهم تعليميا .
ويأتي البحث المنجز في هذا الصدد في إطار محاولة استجلاء علاقة الإزدواجية اللغوية بالتحصيل الدراسي لدى التلميذ الأمازيغي في المدرسة الابتدائية المغربية بعيدا عن أي تعصب أو ذاتية , معتمدين مقاربة سيكواجتماعية ترنو إماطة اللثام عن مختلف جوانب هذه الإشكالية السوسيوتربوية.
استنادا إلى نتائج الدراسة الميدانية التي أنجزتها بمنطقة نائية بنواحي مدينة ورزازات وتحديدا ب ” م /م امدري” التابعة لجماعة سكورة على عينة تمثلت في تلاميذ المستوى الأول المنحدرين من بيئة تتسم بسيادة الثقافة و اللغة الأمازيغيتين, والتي يعاني غالبية سكانها من الهشاشة و الفقر، الشيء الذي يحرم أطفال المنطقة من فرص الإستفادة من التعليم الأولي و من الإنفتاح على عالم المعرفة منذ نعومة أظافرهم.هذا بالإضافة إلى تفشي ظاهرة الأمية لدى غالبية آباء وأمهات التلاميذ ، الأمر الذي يجعل هؤلاء الصغار بمنأى عن المتابعة والتتبع من طرف أولياء أمورهم.
لقد أظهرت الدراسة الميدانية في جانبها المعرفي بعد ملاحظة سير الحصة الأولى من درس التعبير الشفوي للمستوى الأول والمعنون ب ” حوار في الهاتف ” بعد الإستعانة بشبكة للملاحظة ، عدم تمكن التلاميذ من ذكر زمن و مكان وأحداث النص, بالإضافة إلى عدم قدرتهم على استعمال الأساليب و التراكيب في جمل جديدة, و هذا راجع بالأساس إلى افتقارهم لرصيد لغوي كاف للتعبير عن أفكارهم ونسج جمل على منوال الجمل المقدمة من طرف الأستاذ ,الأمر الذي يشكل عائقا أمام التحصيل المعرفي لهذا التلميذ. فالطفل الأمازيغي في سنته الأولى بالمدرسة الابتدائية بالوسط القروي و الذي لم يستفد من سنوات التعليم الأولي, يكون مفتقرا لأوليات اللغة العربية بشكل تام، و هذا ما يجعل احتكاكه بلغة المدرسة عائقا حقيقيا أمام تحصيله المعرفي ,مما ينعكس على مسايرته للحصص الدراسية التي تعتمد الجانب الشفهي بشكل كبير في مضامينها.
وإزاء هذه الإشكالية وبشكل ترابطي عضوي, يتأثر التلميذ الأمازيغي بالمستوى الأول ابتدائي انفعاليا ووجدانيا , إذ تغيب دافعيته للتحصيل الدراسي مما يؤثر على تركيزه و انتباهه أثناء سير الحصة التعليمية, هذا فضلا عن انفصال المضامين المدرسة عن واقعه اليومي و هذا ما أكدته الأبحاث الميدانية التي قامت بها الباحثة أمينة البلغيثي والتي لاحظت وجود قطيعة للتعليم المدرسي بالواقع اليومي المعاش بفعل غياب لغة الأم عن المدرسة. كما أكده الأستاذ جامع جغايمي من خلال تصنيفه لتوجهات التلاميذ من صامتين المتجلية على ملامحهم غيوم من الملل و البعض الآخر منهم يسيرون في فناء المدرسة من غير هدف ، و فئة ثالثة يكتبون على الجدران و يتحينون الفرص لتخريب بناياتها أو تكسير أبوابها و نوافذها.
ويبقى الجانب الحس- حركي الجانب الوحيد غير المتأثر بالإزدواجية اللغوية, نظرا لميل هذا الطفل إلى تقليد حركات أستاذه بشكل آلي, مما يجعل التواصل غير اللفظي فعالا طالما استحالت إمكانية التواصل اللفظي مع أستاذه و التفاعل مع أحداث الدرس, كما أن علاقة الأستاذ الديموقراطية بتلامذته سمحت لهم بالإستمتاع حركيا بالحصة عن طريق تكرار أفعال ربما قد تكون عديمة المعنى بالنسبة لهم.
وبهدف التعمق أكثر في دراسة إشكالية الإزدواجية اللغوية بالوسط المدرسي و التفاعل مع أعضاء هيئة التدريس خصوصا منهم مدرسي المستوى الأول ابتدائي ، أجريت مقابلة جماعية مفتوحة معهم في جو يسوده التوافق والألفة ، أدلى كل منهم بآرائه وتقديراته للظاهرة موضوع المقابلة بكل حرية و تلقائية، تخللها أحيانا في إطار التفاعل تعقيب بعضهم على بعض، وحتى استعادة مواقف ساخرة من أرشيفهم المهني ، بل وحتى من مسيرتهم الدراسية هم أيضا ، طالما ومن محاسن الصدف أنهم اجتازوا نفس الإشكالية محل البحث بحكم أنهم مزدوجو اللغة.
كما تم الإعتماد في إنجاز الجانب الميداني من هذا البحث على استبيان تم توزيعه على العينة المستهدفة و المتمثلة في أساتذة المستوى الأول ابتدائي، و الذين بلغ عددهم 100 أستاذ, يدرسون المستوى الأول بالمدرسة العمومية المغربية في منطقة نائية غالبية سكانها يتحدثون باللغة الأمازيغية , يشتمل هذا الإستبيان على مجموعة من الأسئلة تتمحور حول إشكالية تحصيل التلاميذ مزدوجي اللغة للمضامين الدراسية وكذا على مدى تأثرهم بها سواء على المستوى المعرفي ، الوجداني ، أو الحس ـ حركي.
لقد جاءت نتائج البحث المحصل عليها اعتمادا على أداتي جماعة التركيز و الإستبيان مؤيدة لنتائج ملاحظة سير درس التعبير الشفوي ،إذ أكدت جميعها على أن هاجس اللغة لدى المتعلمين الأمازيغ يبقى المشكل الأساس ، لاسيما في بعض المواد الدراسية يأتي التعبير الشفوي في طليعتها ، نظرا للصعوبة التي تعترض المتعلمين في فهم نص الإنطلاق ، وصولا إلى تركيب جمل مفيدة باللغة العربية الفصحى موظفين الأساليب و البنيات الصرفية و التركيبية المروجة خلال الحصة الدراسية, بفعل محدودية الرصيد المعجمي و اللغوي للمتعلمين.
أما عن مادة القرآن الكريم , فيشكل فهم معاني الآيات إشكالية عظمى للمتعلمين الصغار،خصوصا إذا أراد الأستاذ فعلا الإلتزام باللغة العربية الفصحى في شرحه لها, ناهيك عن محاولة تحفيظها لهم عن طريق الترديد الفردي و الجماعي , فكل تلميذ يردد الآيات حسب تمثله لمعناها و في بعض الأحيان دون إدراك الفواصل بين الكلمات، مما يجعلها متداخلة وتنطق بشكل عجيب.
وحسب الأساتذة المبحوثين, يصبح المتنفس الوحيد للتلاميذ هو مادتي التربية التشكيلية و التربية البدنية اللتان تعفيهم من التواصل باللغة العربية و تعويض ذلك بالرسم أو بالحركات البدنية و تحررهم من قيود التراكيب و الصرف والتحويل ومن فقر الرصيد المعجمي, الشيء الذي يجعل هاتين المادتين بالخصوص محبوبتين بدرجة كبيرة لدى جميع التلاميذ دون استثناء.
إن إشكالية الإزدواجية اللغوية لا تنحصر في السنة الأولى من التعليم الإبتدائي بل وترافق التلاميذ تبعاتها طيلة مشوارهم الدراسي خصوصا عند التحاقهم بالتعليم الإعدادي حيث يحتكون بأقران لهم لا تطرح لديهم هذه الإشكالية بتاتا، أولئك الذين ينحدرون من أصول ناطقة باللغة العربية مما يجعل مقارنة المستوى أمرا ظالما ويفتقد للإنصاف الذي تطبل له كل الإصلاحات المتعاقبة .
إن النبش في خفايا الإنعكاسات السيكولوجية للإزدواجية اللغوية على تحصيل تلميذنا الناطق باللغة الأمازيغية, باعتباره يشكل شريحة لها وزنها بين مرتفقي المدرسة المغربية, يأتي محاولة للإسهام ولو بالجزء اليسير في الدفع بمنظومتنا التعليمية نحو السكة الصحيحة للتقدم و الرقي, و أيضا حرصا على إعطاء التلميذ الأمازيغي ما يستحقه من العناية و الإهتمام, لاسيما أنه وقع تهميشه وتجاهله إما عرضا أو بشكل قصدي في البحوث السيكولوجية والتربوية و البيداغوجية التي أنجزت منذ فجر الإستقلال.
فالمأمول من وراء هذا البحث, هو أن ُيفتح نقاش عميق و مسؤول حول الإزدواجية اللغوية لدى تلميذنا الأمازيغي و تأثيرها السيكواجتماعي عليه من طرف الجهات المعنية. وأخص بالذكر هنا, الوزارة الوصية على قطاع التربية والتعليم في بلادنا, إضافة إلى المعهد الملكي للثقافة الأمازيغية , باعتباره المعني الأول بشؤون اللغة الأمازيغية منذ تأسيسه من طرف جلالة الملك. وهي دعوة أيضا إلى كل من له غيرة على وضعنا التعليمي وعلى مستقبل أبنائنا جميعا دون تمييز بينهم ، في وطن من المفروض أن يسع جميع أبنائه.
المراجع المعتمدة :
أمينة البلغيتي، مجلة الزمان المغربية، العدد 6، 7 عام 1980
جامع جغايمي، تأملات في أصول الخطاب التربوي بالمغرب المعاصر، الطبعة 1، أكتوبر 1995
الغالي أحرشاو، مظاهر نمو الوعي بالإزدواجية اللغوية عند الطفل المغربي , الجمعية الكويتية لتقدم الطفولة العربية، 2007
نعوم تشومسكي, اللغة ومشكلات المعرفة ، ترجمة حمزة المزيني, لسانيات دار MIT Press