التلميذ بوعزة و قلب الأستاذة.
– بقلم : ذ محسن الأكرمين (فكرة مقتبسة )
رغم التجربة التي راكمتها الأستاذة بتدريسها لجميع مستويات المدرسية الابتدائية، فقد وقفت عاجزة أمام معالجة التعثرات الدراسية العميقة للتلميذ بوعزة . انه التلميذ الآتي إلى المدرسة من حي التهميش والهشاشة والسكن القصديري. ومع مرور أيام السنة الدراسية شكلت وضعية بوعزة التعليمة للأستاذة أزمة مهنية مستديمة، وفشلت كل الفشل في بناء موارد تعلماته بكل يسر. و بعد أن جربت الأستاذة جميع طرق التربية و عناوين علم النفس، وحتى الوصفات التقليدية منها، لإلحاقه ولو إلى صف التحكم الأدنى أو جره لفئة التعثرات البسيطة التي لا تحتاج إلى دعم مكثف. إلا أن جميع محاولات باءت بالفشل الذريع. وأصبحت الأستاذة تعيش لحظة إحباط عملي ونفسي، و يأس يومي متزايد، مادامت في الأخير قد أنزلت سلاحها أمام حجم التعثرات الدراسية المتراكمة للتلميذ بوعزة المسكين . يوما بعد يوم يزداد غيظ الأستاذة تجاه الوضعية التعليمية للتلميذ بوعزة ، وأخيرا قررت استدعاء أمه وهو حل السيف الفاصل.
حضرت الأم المسكينة والتي لا تفقه من التعليم إلا اسم ” الشكويلة ” ، والتقت بأستاذة ابنها بوعزة لأول مرة . بعد التحية والتي مارستها الأم بطقوسها الاجتماعية وكأنها ستقبل يد الأستاذة احتراما وتقديرا لها ، انطلقت هذه الأخيرة ملقية اللوم على الأم والأسرة والتي لا تتبع مسار دراسة ابنها ولا تهتم بدعم تعلماته منزليا… وغير ما مرة حاولت الأم تبرير وضعية ابنها البكر بوعزة، ووضعية الأسرة الاجتماعية، ووضعية الهشاشة، لكن الأمر كان يلاقي شدة في الكلام وغلظة سلوكية ونفيا تاما لمبررات الآخر مهما كبر حجم تأثيره على التلميذ بوعزة.
احمر وجه الأم خجلا وكأن عتاب الأستاذة موجه إليها من حيث “من ذاك لعوييد ،راه من هذيك الشجيرة” سكتت الأم وتركت الأستاذة تتمادى في خطابها لعلها تعطف لحالها، وتغفر لابنها تدني مستواه الدراسي … إلى أن وصل الأمر بالأستاذة إلى اعتبار موت بوعزة خير من حياته وتعليمه… هنا سال نقطة كأس الصبر، وعرفت الأم أن مستقبل ابنها لن يتم خبزه بين يدي تلك الأستاذة القاسية، والتي لم تضع اي اعتبار لوضعية بوعزة الاجتماعية. أحكمت الأم قبضتها على يد ابنها المسكين ثم غادرت “الشكويلة ” بلا رجعة، وهي في حالة يأس من لفظ المدرسة العمومية للتلميذ بوعزة، ومن قسوة النظام التعليمي على كل المتعثرين الكثر…
بعد ترك التلميذ بوعزة الفصل الدراسي بالانقطاع، ارتاحت الأستاذة من موضع طاولة بوعزة معلنة للجميع بالمدرسة أن سد الإخفاق المدرسي انقطع عن فصلها الدراسي .
مرت الأيام بتوالي السنين واشتعل رأس الأستاذة شيبا وتجعد وجهها، وتورمت عظام مفاصلها . وفي يوم من الأيام أصيبت بنوبة قلبية ، نقلت إثرها إلى المستشفى …وفيه لاقت الأستاذة العناية اللائقة وخضعت لعملية جراحية مفتوحة على صمام القلب كللت بالنجاح .
وفي قاعة العناية المركزة استفاقت الأستاذة وقد بدا أمد عمرها يتمدد ، ولأول لمحة رأت شابا وسيما وأنيقا في بذلة (أبقراط) إنه الدكتور الذي أجرى العملية لها ، ابتسمت ابتسامة العائدة من كناش شواهد الوفاة ، حين ذاك اقترب الدكتور الجراح منها وألقى عليها التحية ، تغيرت ملامحها وارتبكت في كلامها ، وشدها الاحمرار …خجل الدكتور الجراح من حالتها واقترب منها بالدنو لسماع صوتها الخافت …لكنها لم تستطع نطق كلمة واحدة وهي تريد أن تبوح إليه بسر، ولم يفهم من شفتيها غير “بوعــ…” …فلم يمهلها الموت لحظة واشتعل صفير الآلة معلنة بتوقف قلبها من الخفقان .
يا لها من صدفة عجيبة بئيسة ، نجحت العملية وانتهت بالموت المفاجئ. لكن الأمر الغريب الذي لم تستطع الأستاذة البوح به للدكتور هو سر التلميذ بوعزة . كلكم سادتي عرفتم السر الذي قتل الأستاذة رغم نجاح العملية التي أجرتها على القلب ، إنه بوعزة وما أدراك من بوعزة . حتى أنا في كتابتي عرفت أن الدكتور في وسامته ورعايته للأستاذة وتتبع حالتها الصحية هو بوعزة بعد طول سنين الفراق منذ طرده من المدرسة ذليلا منبوذا. لكني غير ت رأيي بسرعة عندما رأيت عامل النظافة بالمستشفى ينزع موصل الكهرباء عن آلة الإنعاش ويضع شاحن هاتفه النقال . إنه هو ، هو بوعزة عامل النظافة وليس الدكتور، إنه بوعزة الذي قتل الأستاذة ليشحن هاتفه … هنا عرفت لما احمر وجه المرأة المسكينة وتقطعت أنفاسها …هنا نعرف جميعا ماذا كانت تريد أن تفصح به الأستاذة للدكتور الجراح … فرحمة عليك أيتها الأستاذة ….رحمة عليك ومغفرة لك حين ألقيت ببوعزة نحو مجهول الأمية، وبجهل الذي كبر معه اتباعا … فلو انتبهت المدرسة إلى بوعزة ومن ماثله وعالجته بصدق المعاملة والدعم والرعاية التربوية لتعلم درس الكهرباء ، ولم يستخف بآلة الإنعاش، ولم يقدم على حذف موصل الكهرباء إليها وتعويضه بشاحن هاتفه، رغم أنه لا يستعمله وليس في حاجة إليه .
ذ محسن الأكرمين mohsineelak@gmail.com