العنف المدرسي : ظاهرة تجتاح المؤسسات التعليمية
خلال الشهر الماضي ، وبالتراب الإقليمي لنيابة وزان ، اعترض تلميذ سبيل أستاذه ، ووجه له طعنتي سكين خطيرتين ، الأولى على مستوى الظهر والثانية على مستوى اليد ، وذلك عقابا على رفضه منحه نقطة امتحان المراقبة المستمرة .
فحالة العنف المدرسي تلك ليست بالوحيدة ، بل هي تنضاف الى حالات عديدة أصبحت تعرفها الأوساط التعليمية وبشكل مستفحل . بل إن أسرة التعليم أصبحت في السنوات الأخيرة ، تشتكي كثيرا من الاعتداءات التي تتعرض لها من طرف تلاميذ أو أشخاص ينوبون عنهم في التنفيذ الرمزي أو المادي ، كما أن بعض الأطر النقابية والحقوقية تؤكد أن ظاهرة عنف التلاميذ باتت في السنوات الأخيرة ظاهرة مختلف مراحل السنة الدراسية بامتياز ، بعد أن كانت من قبل تتوسع مع اقتراب نهاية الموسم الدراسي وفي أيام الامتحانات ، نتيجة الضغوط النفسية والرغبة في التحصيل .
و مهما اختلف العنف وتعددت أزمنته ودوافعه بمؤسساتنا التعليمية ، فالظاهرة تبقى دخيلة على مجتمعنا ذي مبادئ التسامح والسلم والاختلاف وتقبل الآخر ، والتاريخ يبقى خير شاهد على مسار التعايش والتلاحم الذي عرفه المجتمع المغربي وعبر قرون خلت ،هذا دون الحديث عن الاستثناء الذي قذفت به أمواج عالمية ، والذي وجد إجماعا للتنديد والرفض والمواجهة .
ومادامت المؤسسات التعليمية هي مكان للتنشئة والتربية والتعليم ، فيجب من خلالها محاربة كل مسببات العنف ، والوقوف على الحالات التي تثيره ، والتطرق إلى آليات المعالجة .
وبداية ، لابد من الإشارة إلى أن العنف الذي يستحق التأمل والدراسة وتكاثف الجهود من أجل تجاوزه ومعالجته ،هو عنف التلاميذ الذي يمارسونه على زملائهم أو مدرسيهم أو على المكلفين بتأطيرهم .
لماذا ؟ لأنه فعل مرتبط بشريحة لازالت في طور التنشئة وفي مراحل التربية والتعليم ، وهي فئة بدورها ضحية عوامل وظروف محيطة قد يتسبب المسؤولون والراشدون بالوسط الصغير في بروزها بشكل مباشر ، وقد يساهمون في تنميتها عبر صمتهم وقلة خبرتهم في الحصانة وصد الأفكار و السلوكات المستوردة . وبالتالي فهذا النوع من العنف هو الذي يجب تصحيحه عبر عمليات صلبة الأسس ، وبواسطة متدخلين عديدين ، من رجال تربية وحقوقيين وأخصائيين نفسيين واجتماعيين ،ورجال دين وغيرهم .
أما الشكل الآخر من العنف، والذي يخص المدرس أو الإداري كممارس للعنف والتلميذ كممارس عليه ، ويستخدم فيه العقاب بمختلف أشكاله من أجل التخلص من سلوك معين أو تصحيح وضع غير مرغوب فيه ، فتلك ممارسات محسوم في نفيها وتركها مهما تعددت التأثيرات واختلفت الأسباب ، لأن الفاعل هو مسؤول تربوي أو إداري من المفروض أنه مر من تكوين أساسي تعرف من خلاله على الواجبات والحقوق وعلى الجائز والممنوع في ممارساته المهنية ، وبالتالي فهو ليس في حاجة إلى تحسيس أو توعية للتخلي على عنف مرفوض من طرف كافة هياكل المجتمع ، بل يحسب عليه ذلك الخرق في حالة وقوعه وضمن لائحة الخطأ المهني .
ظاهرة عنف التلاميذ غريبة على مؤسساتنا التعليمية
فإذا كان الطالب في بعض الدول الأجنبية قد أصبح يشهر مسدسه داخل مؤسسته التعليمية ويقتل عددا من زملائه ومدرسيه ، فتلك أمور لا تدعو إلى الاستغراب ، لأن ذلك الشخص/ الطالب قد تربى في مجتمع متشبع بثقافة السلاح و العنف ، فمنذ نعومة أظافره وهو يتلمس المسدسات والرشاشات النارية المتواجدة في بيت أسرته ، و التي ترخص قوانين مجتمعه بامتلاكها وتداولها ، و منذ بداية وعيه وهو يعايش أحداث العنف والسطو ، ويتابع مشاهد الرعب والقتل والتدمير عبر برامج تلفزيونية منتجة محليا .
أما عندما يحاول تلاميذ من داخل المجتمع المغربي ، وهم في المرحلة الإعدادية ، تفجير مؤسستهم التعليمية،و تلميذ آخر يقوم بإسقاط أستاذ على الأرض و ينهال عليه بالضرب والرفس أمام مرأى الجميع ، فتلك ظاهرة ليست بالعادية في مجتمع آمن منذ قرون خلت بالتسامح والسلم والاحترام المتبادل ،
فبالأمس القريب كنا لا نتحدث عن الاستثناء ، وكان الحديث عن المؤسسة التعليمية يدور بنفحة القدسية ، و كان المدرس محل تبجيل وبمثابة الأب بالمؤسسة التعليمية ، مما يجعل احترامه ووقاره يصاحبان التلميذ طوال حياته ، ويجعل من أخلاق المدرس وسلوكياته وأفكاره بمثابة النموذج المحتذى به والمرجع الأساس المعتمد عليه في تدبير الشؤون الحياتية لطفل الأمس ورجل اليوم .
الظاهرة أصبحت في تزايد ملفت
لقد كانت المدارس المغربية جميعها محل تعلم وإبراز الأخلاق والقيم ، وكانت جميع عناصرها البشرية ملتزمة ومواظبة على تبادل الاحترام بفضل خصوصيات المكان ، أما اليوم فقد أصبحنا نتحدث عن الاستثناء ، وعن الحالات الشاذة في ممارسة العنف داخل المؤسسات التعليمية من قبل تلاميذ يصفهم البعض بالعدوانيين والمتمردين ، ويصفهم آخرون بضحايا التنشئة الاجتماعية والظروف الاقتصادية والتأثيرات السيكولوجية ، ولعل واقع الحال يؤكد تزايدا في حجم الظاهرة ،التي تعد حالاتها بالمآت، فهذا تلميذ وجه لأستاذه لكمات على مستوى الرأس وركلات على مستوى الصدر وهو في حالة هيجان ، وهؤلاء تلاميذ أرادوا استعمال قنينة غاز لتفجير مؤسستهم التعليمة، حيث أنهم رأوا في ذلك السبيل الوحيد لتعطيل تنظيم الامتحان الذي يعنيهم، ولإتلاف وثائق المعدلات والنتائج التي على ما يبدو لا تشرفهم ، وذلك تلميذ وقف من مقعده ، ليس تبجيلا لأستاذته ، بل لصفعها صفعة لن تنساها مدى الحياة ، وتلميذ آخر أصبح يتعمد استعمال رنات هاتفه النقال داخا القسم لنرفزة أستاذه ،هذا الأخير بعد أن أراد تطبيق القانون الداخلي للمؤسسة تعرض للاعتداء الجسدي ، واضطر إلى زيارة مصلحة الشرطة لتسجيل شكاية، و حالة أخرى تؤكد بروز الظاهرة ، في الأيام الأخيرة ، هي تلك المتعلقة بتلميذ اعترض سبيل أستاذه بعد خروجه من المؤسسة بمدينة وزان ، ووجه اليه طعنتين خطيرتين ، الاولى على مستوى الظهر والثانية على مستوى اليد ، وذلك عقابا له على رفضه منحه نقطة امتحان .
لقد تعددت الحالات واختلفت ، واتضح أن الظاهرة في انتشار مستمر،مما جعل رجل التعليم يفقد هبته بفضل هذه السلوكات السيئة .
فبعد أن كان التلاميذ يتسابقون لتخفيف عبء المحفظة والأدوات الديداكتيكية على مدرسهم ، وكانوا يرافقون أستاذتهم حتى محطة التاكسيات لمنع أي تحرش قد تتعرض له تحت جنح الظلام الذي يصادف الساعة السادسة في بعض أشهر السنة الدراسية ، بعد هذا أصبح البعض يتربص بأستاذه على أبواب المدرسة لمعاقبته والاعتداء عليه حتى يظهر بطلا وهميا أمام زملائه ، دون أن يدري مخلفات طيشه .
بعض مسببات الظاهرة
العديد من حالات الاعتداء على أسرة التعليم أصبحت تشهدها مؤسساتنا التعليمية ، وبمختلف الأشكال الرمزية والمادية ، فمن سب وشتم إلى ضرب ورفس ، و تهديد واعتداء بالسلاح الأبيض ، ولعل الأسباب تبقى متعددة قد نختصرها فيما يلي :
ـــ ظروف التنشئة الاجتماعية للمتعلم سواء داخل الأسرة أو المؤسسة التعليمية عبر المراحل السابقة .
ـــ ضعف التواصل بين الأسرة والمدرسة، والغياب الكبير لبعض الآباء عن متابعة أبنائهم داخل المدرسة وفي محيطها.
ـــ الاكتظاظ داخل الفصول الدراسية ، و ما قد يسببه من تسيب و فوضى .
ـــ قلة الوسائل التعليمية ، وضعف البنية التحتية للمدرسة ، فقلة الوسائل تولد فراغا وتشكل حاجزا أمام تحقيق التواصل التام ، وغياب أسوار وحواجز للمؤسسة يسمح بدخول المنحرفين إلى المؤسسات التعليمية وما يصاحبهم من سلوكات لاتربوية ومخدرات … كما أن تواجد المتعلم بين جدران وطاولات مخربشة بكتابات وشعارات مسيئة لسمعة المدرسة والمدرسين لن يزيده إلا إهمالا وتدمرا من واقع تعليمه .
ـــ غياب الأخصائيين النفسيين والاجتماعين عن المؤسسات التعليمية ، والكل يعلم ادوار علم النفس والدعم الاجتماعي في ممارسة البيداغوجيات الحديثة .
ـــ ضعف التواصل الوجداني بين بعض المدرسين والمتعلمين ، الناتج عن التقليل من أهمية الأنشطة الموازية و أدوار الأندية التربوية والانشغال بتطبيق البرامج و المقررات الدراسية المتعلقة بمواد الامتحانات ، ولعل السبب الأعمق في ذلك هو ضعف التكوين السيكوبيداغوجي لدى بعض المدرسين ، إضافة إلى امتياز التربية الحديثة بالشمولية والتركيز أكثر على الجانب الوجداني ، وفي غياب هاتين الميزتين أثناء الممارسة التربوية قد نحصل على تلميذ استهلاكي غير قابل إلا للتعلم المقرون بالنتيجة الآنية .
ـــ النظام التربوي القديم رسخ لدى المجتمع والمدرسة ثقافة التهديد والمنع والتوبيخ والتخويف والترويض ،لأنه بني أصلا على بيداغوجيات ومكونات التزويد و الشحن وقتل المبادرة والإبداع ، وللإشارة فقط ، فهذا النوع من الأنظمة التربوية كان سائدا على صعيد عالمي انطلاقا من حاجيات اجتماعية واقتصادية معينة .
ـــ العنف وولادة العنف المضاد ، فأساليب العقاب المختلفة التي لازال بعض المدرسين و الأطر الإدارية يمارسونها داخل الحجرات الدراسية والمؤسسات التعليمية تساهم بشكل كبير في ظهور عنف مضاد وتمرد من قبل التلاميذ ، سواء على نفس الأطر أو على أطر يسهل الاعتداء عليها ، والهدف يبقى هو الانتقام لأسباب غالبا ما تكون وهمية .
ـــ انتشار المخدرات والكحول بمحيط المؤسسات التعليمية ، وفقدان بعض مكونات المجتمع للقيم الأخلاقية التقليدية الفردية والجماعية ،مما يشكل لدى المتعلم نموذجا للانحراف والإدمان ،ومن تم انعدام الحافز وفقدان الرغبة في التمدرس ، وقد تتسرب الكحول والمخدرات حتى داخل حجرات الدرس ، حيث سبق ضبط تلميذان في حالة سكر داخل القسم وزميلة لهما كانت تخبئ قنينة النبيذ ومكلفة ” بالسقي ” .
ـــ انتشار مواد إعلامية تدعو أو تجسد العنف .
ـــ ضعف مشاريع الدعم النفسي والاجتماعي للمتعثرين ، وغيابها أحيانا في العديد من المؤسسات التعليمية.
ـــ عدم توفر بعض شروط الإنصاف وتكافؤ الفرص ،خاصة عند اللجوء إلى الدروس الخصوصية و النفخ في نقط المراقبة المستمرة لبعض الأقارب والمحسوبين .
مقترحات لمعالجة الظاهرة وتطويقها
إن هذه العوامل و غيرها من مسببات عنف التلاميذ داخل المؤسسات التعليمية يمكن تجنبها أو الحد منها بشكل تدريجي ،وذلك باتخاذ بعض الخطوات ، مثل :
ـــ تهييء فضاءات لممارسة الأنشطة الثقافية والرياضية ، التي تلعب دورا في تنمية شخصية المتعلم وتوازنها ( الموسيقى ، الرياضة، الفن التشكيلي ،التمثيل …) .
ـــ التركيز على ترسيخ ثقافة حقوق الإنسان ، والعمل على مسايرة التحولات الوطنية والدولية في هذا المجال .
ـــ التركيز على القيم المنصوص عليها في الوثائق التربوية الوطنية وعدم إغفال أي جانب من جوانبها .
ـــ توفير أخصائيين نفسيين واجتماعيين بالمؤسسات التعليمية ،إما عبر تعيين من الوزارة الوصية على قطاع التعليم ،أو ضمن تعاقدات أو شراكات تفعلها مؤسسات التعليم مع باقي المتدخلين المعنيين.
ـــ قطع الطريق على بعض المتطرفين الذين يحاولون استغلال تلاميذ أبرياء لتمرير أفكار هدامة وضيقة.
ـــ محاولة خلق تعاونيات وأندية جديدة داخل المؤسسات التعليمية لملئ الوقت الفارغ للتلميذ و لتحسيسه بالمسؤولية اتجاه نفسه واتجاه الآخر والمجتمع .
ـــ على المدرس أن يكسر صورته السلطوية القديمة ، وعليه أن يتجنب تهميش المتعلمين وأن يترجم النواهي والأوامر إلى سلوكات تخضع لمنطق الإقناع والاقتناع ليتم دمجها في حمولة القيم الحضارية والإنسانية .
ـــ التركيز على السمات الرئيسية للتفاعلية من انفتاح وتفتح واستعداد للحوار والنقاش وتقبل الآخر .
ـــ العمل على وضع خطط الدعم المؤسساتي لمحاربة التعثر الدراسي و التقليص من الفوارق الفردية و لتجسير الهوة بين مستويات التحصيل الدراسي.
ـــ ونتمنى أن تتوفق الأكاديميات الجهوية الجديدة للتربية والتكوين في ترشيد تدبير الميزانيات الجديدة في شقها المتعلق بالحراسة ، وأن تحسن تحديد النقط السوداء (الثانويات،وبالخصوص تلك المتواجدة بالأحياء الشعبية والتي تشهد أكبر نسبة من العنف والانحراف) لتوفير أمن خاص محترف لحماية جميع مرافق المؤسسة التعليمية، بما فيها الأبواب، من الغرباء الذين يحاولون زرع الانحراف والإدمان في صفوف التلاميذ ، وعلى مفهوم الحراسة أن يتجاوز المكاتب وفتح وإغلاق الأبواب إلى مراقبة الدخلاء والمتسربون المسيؤون إلى المجال التربوي و إلى التلميذ .
كلنا نؤمن بأن العنف المدرسي شيء مرفوض وغير مقبول تماما ،لأن المدرسة هي مكان للتربية و تصحيح السلوك وتعلم القيم النبيلة المتنافية مع التعصب والاعتداء والإكراه ، والأكثر من ذلك أنها مكان لإنتاج وتصدير قيم الوفاء والانفتاح والتسامح والاختلاف … وعلى كل المتدخلين في الشأن التعليمي الانتباه إلى بعض الاعوجاجات التي تحول دون تكوين سلوك سوي ، وهذا لن يقف فقط عند حدود المسؤولية بل يتعدى ذلك إلى الإنابة في المهام و الأدوار والإسهام في التوعية ، فالأسرة مثلا التي تعاني من الأمية قد تكون غير مؤهلة للقيام بالتنشئة المطلوبة ومن تم ينبغي تدخل الجمعيات المعنية ومؤسسات الدولة وغيرها للمساعدة والتأهيل .