العُنفُ النّاعِم
بقلم ذ. محمد بوطاهر- 8 نونبر 2017
دفعت واقعةُ ورززات التي زجت بأستاذ داخل مؤسسة تعليمية في حَضيض اللكم والسّحل وشتى أصناف الذل والمهانة، مُختلف الهيئات المدنية والنقابية إلى الخروج صادِحة بشناعة الفعل المقترف و تنديدا بأوضاع رجال التعليم ونسائه وما آلت إليه المنظومة التربوية كلها من ابتذال وهَوان. ولعلَّ ما وقع ليس بأمر مُستحدث أو حدث نشاز، وإنما نتيجة حتمية لا بد منها أفرزتها مُختلف القوانين المنظمة التي تدفع -عن قصد- المجتمع كله إلى هدر كرامة الأستاذ(ة) والتبخيس من دوره النبيل، بل ودفع المتعلمين تحديدا إلى التمييز بين أنواع العُنف والتنصيص على نعُومة تعنيف أهل المنظومة التربوية وخدامها بالذات، دون باقي القطاعات الأخرى المشكلة لهُوية الدولة بمفهُومها القانوني.
العُنف لا لَونَ له ولا هُوية، سَواء كان جمعِيا أو فرديا، إنه تجلّ سَلبي لا يمكن قبوله داخل أي فضاء ما، وأكثر شجبا داخل فضاء المؤسسات التعليمية التي من المفروض أن تحبل بكل معاني الحكمة والأخلاق والمقاربة العقلانية. ولهذا يبقى طرح الوزارة الوصية في استقواء التلميذ (ة) عبر مجموعة من القرارات ومحاولة شرعنة مُمارسة العنف عن طريق عدم المتابعة أو استغلال النفوذ أو التغاضي عن تلك الممارسات السلبية من طرف بعض القيمين التربويين الإمعات الذين يخدمون الأوامر الفوقية مُباشرة بوعي أو بدونه، يبقى مُجانبا للصّواب من مَناحٍ عِدة منها:
أولا: العنف نزوح نحو البهيمية/الحيوانية التي تُغيِّب العقل ومُمارسة الطريقة الجدلية البناءة، وبالتالي فالنظر إلى ما وقع ويقع في المؤسسات التعليمية نظرة تبسيطية تقزيمية، يستلزمُ أفقيا أن نتقبل امتداد العنف إلى خارج المؤسسة وتحديدا الشارع والمجتمع/الأسرة. فالمتمحص للأمور يدرك أنه لا الأسرة الآن ولا المدرسة يُربيان، وإنما الذي بيده ملكوتُ ذلك هُو المجتمع أو الشارع. فهو وحدهُ الذي يكسب التنشئة الحالية جميع مهارات الزيغ والشذوذ السُّلوكي، في ظل غياب المراقبة الحازمة على كيفية استخدام وسائل التكنولوجيا أو وصُول الممنوعات إلى هؤلاء الشباب. وقياسًا عليه، فنحن لا ننتظر من مثل هذه القنابل البشرية الموقُوتة التي تُعَنّف أهلها داخل فضاء الأسرة أن تكِن السّلم والأمان للمدرسة. إنه أوان انحطاط القيم الفُضلى بدُون مُنازع.
ثانيا: الخطابُ التربوي الرّسمي خِطاب إشهاري مُنافق، ولا يمكن تطبيقه بحذافيره أو العمل بكل سَذاجة على الالتزام بمضامينه، وذلك لسبب بسيط أن الواقع المعيش يناقضُ التّصورات التي يُراد تنزيلها، وعليه فكل تلك الفجَوات التي تحصل بين التصور والتنزيل تجعل المتعلم قبل غيره عُرضة لمركبات نقص تدفعه دفعا نحو البحث عن بدائل مُمكنة كالنرجسية والعنف، وهما سمتان بارزتان داخل الوسط المدرسي المغربي، وبالتالي نعلم يقينا أن مثل هذه الظواهر، العنف خاصة، عمل مقصود وغاية مرجُوة من كل التدابير التي تُسَن من فوق، في مكاتب أهل المآرب والمشاريع الخصُوصية الذين يستهدفُون الجودة في مدرسة الفُقراء العمومية .
ثالثا: تعنيف الأستاذ ثم التضامن معه أو عدمه، نقابيا أو بصفة أخرى غيرها، لا ينقصُ من الأمر أو يزيد منه شيئا، خاصة في ظل هذا الركود والاسفاف الذي تعيشه الأسرة التعليمية، حيث يتحمّل فيه رجال ونساء التعليم النصيب الأوفر بسبب تخاذلهم وركُونهم إلى الذاتية والمصلحة المادية الرخيصة، ولن نبتعد كثيرا في استقصاء الحُجة لنبْصِرَ كيف تأبطت طائفة منهم محافظهم المهترئة هذا الصّباح، الذي أعلن يوما للاحتجاج والاضراب عن العمل تضامنا مع كل المعنّفِين والمعنّفات وما آل إليه واقعُ التدريس بشكل عام، مُهَرولين ومُهْطِعِينَ رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاء، نحو عمَلِهم دُون حَرج ولا شُعُور بوازع الانتِماء القِطاعي على الأقل. من هُنا يجب أن نقول بكل جَسارة أن داخل هذه المنظومة التربوية تتعشْعَش كائنات حية تقبلُ بكل أنواع المهانة والذل ولا يضيرها ذلك أبدا، وهي التي تكرّسُ من جانب آخر تيمة العنف وتنميه بسبب الاستسلام الزائد والركوع المقيت.
رابعا وأخيرا : النضالُ ضد كل أشكال العُنف لا يجب أن يكون عفويا وظرفيا يَردِفُ حوادث بعينها، بلْ هُو نضال مَنهجي مُستمر، يكون بالضرورة مُمتدا عبر الزمن ومُوازي لكتلة المطالب الأخرى التي يحملها المناضل في حياته المهنية. وأولى منافذ شجبه دعوة الوزارة إلى مراجعة فحوى العديد من المذكرات والقرارات التي تكبلُ صلاحيات الأستاذ(ة) والمجالس وهيئات المؤسسة التربوية، وكذا العمل على رد الاعتبار لهذه المهنة الموسُومة بالهزال والضَّعف وتصحيح عدسة الإعلام المُخنث الذي يتقوّى على حساب تشويه سُمعة الأستاذ(ة)، فضلا عن تعمِيق النّقاش الهَادف مع جميع الفُرقاء من أجل اسْتلهَام القِيم الجَميلة والصّالحة التي تخدمُ العمل التربوي وتنعكسُ ايجابا على المتعلمين والواقع الاجتماعي كله.
خلاصةُ هذه المناحي كلها، التي تبقى وجهة نظر خاصة، هي أن ما تشهده المدرسَةُ المغربية، منذ جُرعة إصلاح العُشرية الأولى من هذا القرن إلى الآن، من عبث تنظيمي وقيمي وارتجالية في الاصلاح هي نتاج مُركب ومرسوم له سَلفا، وما صُورة تعنيف أستاذ ورززات إلا مشهد مُصغر من مشاهد تعنيف الحكومة المغربية للإنسان المغربي وسَحل عقلِه تحتَ أقدام اللوبيات الفاسِدة والقرارات الصَّماء ذات الأُكْلِ المُر.