الفصل الثالث من قراءة في سيرة ليلى أبو زيد الذاتية : المقومات السردية
لحسن الخلفاوي
4- الصيغة:
ويقصد بالصيغة الأسلوب السردي الذي يعتمده الكاتب في تقديم الأحداث وعرضها؛ إذ القصة تصلنا عبر سرد الأحداث أو عرضها من خلال الحوار بين الشخصيات.
وفي السيرة الذاتية لليلى أبو زيد نجد هاتين الصيغتين حاضرتين، بشكل متوازن تقريبا، حيث يضطلع السارد بمهمة سرد الأحداث، ويتوارى السرد مرات عديدة ليترك المجال للعرض أو الحوار بين الشخصيات، كما هو الشأن في المشاهد التالية:
• الحوار بين الأم والحمو (ص: 34-35)
• الحوار بين الأم و عمها ( ص:36-37)
• الحوار بين الأم والروبيو والعجوز والقاضي (من الصفحة 46 إلى الصفحة 50)
وأهم ما يميز تقنية العرض الموظفة هنا هو تدخلات السارد من حين لآخر من خلال إشارات وتوضيحات مثل بيان مصدر القول بعبارات مثل: قلت، وقالت…إلخ.
5- الزمن:
يقول جيرار جنيت في إشارة إلى أهمية الزمن في الأعمال السردية: ” يمكنني جيدا أن أروي قصة دون أن أعين المكان الذي تحدث فيه، وهل هذا المكان بعيد كثيرا أو قليلا عن المكان الذي أرويها منه. هذا في حين يستحيل علي تقريبا ألا أموقعها في الزمن بالقياس إلى فعلي السردي، ما دام علي أن أرويها بالضرورة في الزمن الحاضر أو الماضي أو المستقبل. ولعل هذا ما يجعل التحديدات الزمنية للمقام السردي أهم بوضوح من تحديداته المكانية… يهمنا كثيرا أن نعرف –مثلا- كم مضى من الزمن بين المشهد الأول من رواية “بحثا عن الزمن الضائع” (مأساة النوم) واللحظة التي يُتَذكر فيها بهذه الألفاظ:( لقد مضت سنوات كثيرة على تلك الليلة. وجدار السلم الذي رأيت عليه ضوء شمعته لم يعد موجودا منذ وقت طويل). ذلك لأن هذه المسافة الزمنية، وما يملأها، وما ينشطها، هي عنصر جوهري في دلالة الحكاية”. (خطاب الحكاية، ص: 230-231)
وفي هذا الإطار ميز جيرار جنيت بين مستويين زمنيين في الحكاية، هما:
– زمن القصة: وهو زمن الأحداث كما يفترض أنها وقعت، حيث تخضع للتسلسل الزمني والمنطقي الذي يقتضي أن يروى الحدث الأول فالثاني ثم الثالث وهكذا دواليك إلى أن تصل الحكاية إلى نهايتها
– زمن الحكاية: والمقصود به نظام ترتيب الأحداث في النص. وهو زمن لا يخضع بالضرورة للتسلسل الزمني نفسه الذي تخضع له الأحداث في زمن القصة، ولا للمدة نفسها التي تستغرقها. إذ بإمكان السارد أن يبدأ حكايته من حيث انتهت القصة، أو من وسطها، أو من أي مرحلة شاء. فيتلاعب بزمن القصة، فيقدم ويؤخر، ويعطل ويسرع. وهكذا نستطيع أن نميز بين نوعين من التلاعب بالزمن السردي هما: الترتيب والمدة. وفي الترتيب نجد مفارقتين زمنيتين هما: الاسترجاعات والاستباقات.
فالاسترجاعات تحدث عندما يتوقف السارد عند نقطة معينة من زمن القصة ليعود إلى الوراء قليلا أو كثيرا ليحدثنا عن أحداث سابقة. وتؤدي الاسترجاعات وظائف جمالية وبيانية؛ كأن تأتي لتسد فجوة زمنية سابقة في الحكاية، إما بتناولها “شخصية يتم إدخالها حديثا ويريد السارد إضاءة سوابقها … وإما شخصية غابت عن الأنظار منذ بعض الوقت، ويجب استعادة ماضيها قريب العهد. ولعل هاتين هما وظيفتا الاسترجاع الأكثر تقليدية” (خطاب الحكاية، ص: 61) وتأتي الاسترجاعات أحيانا لتضفي على الواقعة المسترجعة معنى لم تكن قد اكتسبته في حينها، أي تأتي لتعدل بعد فوات الأوان دلالة الأحداث الماضية. هذا بالإضافة إلى كسر الرتابة التي قد تنتج عن التسلسل الواقعي للأحداث.
وأما الاستباقات فتحدث عندما يتوقف السارد قليلا ليخبرنا عن أحداث ستقع لاحقا، ومع أن الاستباقات أقل تواترا من الاسترجاعات كما نبه على ذلك جيرار جنيت، فإن “الحكاية بضمير المتكلم أحسن ملاءمة للاستشراف من أي حكاية أخرى، وذلك بسبب طابعها الاستعادي المصرح به بالذات، والذي يرخص للسارد في تلميحات إلى المستقبل”. (خطاب الحكاية، ص: 76) وذلك كقول حنا مينة في ” بقايا صور”: “لأنني الصبي بعد ثلاث بنات، والصبي الذي سيبقى وحيدا لأن إخوته اللاحقين سيموتون الواحد بعد الآخر”. (بقايا صور، ص: 54) ومن وظائف الاستباقات التعويض عن حذوف ستقع لاحقا، والإعلان الذي يؤدي وظيفة تشويقية.
وأما بخصوص المدة التي تعني مقارنة مدة الحكاية بمدة القصة التي ترويها، فنميز بين أربعة أنواع من الحركات السردية؛ هي: المجمل، والحذف، والوقفة الوصفية، والمشهد.
– المجمل: وهو سرد أحداث يفترض أنها جرت في أيام أو شهور أو سنوات في بضعة أسطر، أو بضع فقرات دون التعرض للتفاصيل، فتصير مدة الحكاية أقل بكثير من مدة القصة؛ كقول السارد في رواية (الأفعى والبحر) لمحمد زفزاف: ” مر على سليمان بالمكان خمسة أيام. قرأ فيها قليلا، وتأمل في أشياء غير ذات بال، وتحدث إلى خالته عن ثريا وسي أحمد، ولكنه لم يكن مرتاحا بما فيه الكفاية” (نقلا عن حسن بحراوي في كتابه: بنية الشكل الروائي، ص: 152)
– الحذف: وهو إسقاط فترة قصيرة أو طويلة من زمن القصة، وعدم التطرق لما جرى فيها من أحداث ووقائع. ويستدل عليه في الغالب بعبارات دالة عليه، أو بالبياض، أو نقط الحذف؛ كقول السارد في رواية (مائة عام من العزلة، ص: 30) لغابرييل غارسيا ماركيز: ” وبعد نحو سنتين من السفر اكتشفوا المنحدرات الغربية من سلسلة الجبال”.
ومن وظائف المجمل والحذف تسريع السرد، واقتصاد الحكاية. ويختص الأول بوظيفة الربط بين أجزاء الحكاية وضمان الانتقال من مشهد إلى آخر. (خطاب الحكاية، ص: 110)
– الوقفة الوصفية: يتوقف السارد أحيانا عن سرد الأحداث ليصف مشهدا أو شخصية؛ كقول السارد في (مائة عام من العزلة، ص: 14) ” كانت قدرة اورسولا مثل قدرة زوجها. كانت امرأة نشيطة دقيقة عنيفة قوية الأعصاب…”.
– المشهد: يحدث أحيانا أن يفسح السارد المجال لشخصياته لتتحاور فيما بينها ويكتفي بنقل هذا الحوار. وهذا ما يسمى المشهد.
ومن وظائف الوقفة الوصفية والمشهد تعطيل السرد، بحيث تصير مدة الحكاية أكبر من مدة القصة، مع ما يطرحه المشهد من إشكالات. ففي الواقع تعد المشاهدُ الحركةَ السردية الوحيدة التي بإمكاننا أن نقول عنها: إنها تخلق نوعا من التطابق بين المدتين.
وإذا عدنا إلى السيرة الذاتية لليلى أبو زيد وجدناها توظف مفارقات زمنية كالاسترجاعات والاستباقات. فهي تبدأ بحكاية أولى هي توقف الحافلة عند علامة القصيبة، سنعتبرها الحكاية الأولى على مستوى زمن السرد، لا على مستوى زمن القصة. وتعقب هذه الحكاية استرجاعات واستباقات مختلفة. فمن نماذج الأولى قول الساردة: ” كنا ثلاث طفلات ذلك اليوم عند تلك العلامة، ولو عاشت خديجة لكنا أربعة. كنا قد أقمنا في الرباط ثمانية أشهر سمح الفرنسيون لوالدي فيها بالالتحاق بمعهد الدراسات العليا الذي كان في البناية ذات القبة الخضراء التي أصبحت الآن كلية الآداب… سكنا، قبالة مستشفى مولاي يوسف، أحد بيتين أرضيين في عمارة جديدة… وفي ذلك البيت بتلك العمارة ماتت خديجة من الحصبة، وولدت نعيمة” (ص: 10) فالساردة هنا تعود بنا إلى الوراء لتحدثنا عن الأشهر الثمانية التي قضتها الأسرة في الرباط، حيث ماتت خديجة وولدت نعيمة. وهي حكاية سبقت من حيث الوقوع في الزمن الحكاية التي شكلت منطلق السرد في هذه السيرة. وقد تضمن هذا المقطع –أيضا-استباقا يتعلق بتحول المعهد العالي فيما بعد إلى كلية الآداب. ومن نماذجها أيضا قول الساردة: ” وبعد ذلك سافرنا إلى صفرو بغتة. تلك السفرة التي سجن فيها (تقصد أباها) والتي ترويها أمي دائما مبتدئة بذات يوم..” (ص: 31) وهي حكاية استعادية جاءت لتعوض عن حذف وقع في البداية، فنحن عندما نفتح الكتاب تصادفنا جملة: ” كنا عائدين من سفرة أخرى إلى بلدة أمي” (ص: 9) ولا تحدثنا الحكاية حينها عن هذه السفرة، ولا ما حدث أثناءها، فيأتي هذا المقطع الاستعادي ليعوض هذه الثغرة. ومن ذلك تلك الاسترجاعات التكرارية التي تأتي لتعيد حادثة تم التطرق إليها آنفا؛ كهذا المقطع في الصفحة الثالثة والثلاثين: ” وعند الفجر ركبنا ونزلنا عند علامة القصيبة. ثم جاءت شاحنة ولوح لها سيدي محمد فقال له السائق: لا يركب إلا واحد. فقال: لن يركب غيري. سأذهب لأخبر عزيزي بوصولنا. وركب معه وبقينا نحن”. (ص: 33)
زمن نماذج الثانية قولها: “كانت رحمها الله أو ذكرها بالخير طيبة”. (ص:11) وقولها: ” إلى الآن مازلت كلما مررت بباب مقبرة العلو حيث دفناها إلى يمين الباب، اتفحصه، وأقول: “رحمك الله يا خديجة”. مرة كنت مع ابنتي نعيمة فخفضت سرعة السيارة وقلت لها: هل رأيتما ذلك الباب؟ إلى يمينه يوجد قبر أخت لنا اسمها خديجة، ماتت في نفس العام الذي ولدت فيه أمكما. اسألا الله أن يرحمها”. (ص:11) ومنها أيضا قولها ” في عام 1980 جاءنا إلى الرباط وانتظر حتى خرجت إلى المطبخ وبقيت وإياه في الغرفة، قال لي: اسمحوا لي عما بدر مني في 53. كنت أحمق. أريد أن تعرفي أن عمري كان سبع عشرة سنة…. فوجئت فلم أقل شيئا ولكنني في 82 قلت: عندما حدث منهم ما حدث حول الإرث بعد وفاة والدي قلت له: تذكر ما قلته في مكانك ذاك منذ عامين”. (ص: 53)
وأما عن المدة فنجد أشكالها حاضرة بقوة –أيضا- في هذه السيرة. وهي:
– المجمل: وأمثلته كثيرة منها هذا المقطع: ” كنا قد أقمنا في الرباط ثمانية أشهر سمح الفرنسيون لوالدي فيها بالالتحاق بمعهد الدراسات العليا، الذي كان في البناية ذات القبة الخضراء التي أصبحت الآن كلية الآداب…”. ثم تحدثنا الساردة في عجالة عن البيت الذي سكنوه هناك، وعن جارتهم جميعة وزوجها، وتخبرنا بولادة أختها خديجة.
– الحذف: ومن أمثلته هذا المقطع: ” كان نجيبا، ولكنهم لم يسمحوا له إلا بالدراسة حتى الشهادة الابتدائية، ثم عينوه ترجمانا في مولاي علي الشريف”. (ص: 16) فقد حذفت الساردة مدة زمنية طويلة هي فترة دراسة الوالد وما جرى فيها من أحداث لتنقلنا مباشرة إلى حصوله على الشهادة الابتدائية وتعيينه ترجمانا. ومن أمثلته كذلك: “جاءت فطومة وابنتها ودمية زوجة علال وحادة عمة ابيك والروبيو. بقوا خمسة أيام أو ستة أو ثمانية. وعندما أرادوا أن يذهبوا قالت لي حادة…” (ص: 103) فهذه خمسة أيام أو أكثر قضتها هذه الشخصيات في بيت أحمد أبو زيد من غير أن تحدثنا الساردة عما وقع فيها. ولا شك أن مثل هذه الحذوف تلعب دورا هاما في اقتصاد الحكاية، ولاسيما عندما يتعلق الأمر بأحداث روتينية أو هامشية ترى الساردة أنها غير ذات فائدة.
– الوقفة الوصفية: وترتبط في ” رجوع إلى الطفولة” بالأماكن والأشخاص، حيث يتوقف السرد فاسحا المجال لمقاطع وصفية تضيء جوانب شخصية من الشخصيات، أو مكان من الأمكنة. ومن نماذج الوقفات الوصفية المتصلة بالمكان هذا المقطع:” كان في بيت جدي لأبي ملاحف وحنابل بدوية، وحصير وقدور طين وقلال وصناديق ومناول منصوبة في الغرف، وجدي في الفناء على الدوام، وأمامه صينية الشاي. وكان في بيت جدي لأمي موائد ومطارف وصوف، ووسائد مخملية مزينة بحواشي الحرير والأهداب، وستائر لينة، نحيلة وأسرة وطوارم من خشب مخرم….” (ص: 14) ومن نماذج الوقفات الوصفية المتصلة بالأشخاص هذا لمقطع: ” أيوا ذهبنا وحل الليل، وإذا برجل يطرق الباب. شعره على وجهه إلى هنا وإلى هنا. عليه جلباب صوف ثقيل ممزق، وفي قدميه نعل قديم يشده بحبل” (ص: 60)
وتقوم هذه الوقفات الوصفية بوظائف بيانية وأخرى جمالية، وتسمح بتمديد الحكاية، وتأجيل نهايتها.
– المشهد: وهو وارد بكثرة في هذا العمل، إذ قلما تخلو منه صفحة من صفحات الكتاب. ونشير هنا إلى أحد المقاطع الحوارية على سبيل التمثيل الا الحصر:
“- ما اسم السجين؟
قلت:
– فلان
– ماذا يقرب لك؟
– زوجي
ثم قال للمرأة:
– وأنت؟
قالت:
– اسيدي الله يرحم والديك مازلت في انتظار أمي. إن شئت خرجت من الصف”. (ص: 58)
وتلعب المشاهد في رجوع إلى الطفولة دور نقل الحدث أو الخبر بشكل أمين يقرب القارئ من مشاهد الحياة الحقيقية.
6- الفضاء:
تتعدد دلالات الفضاء بتعدد اهتمامات المشتغلين به. فهناك من يتحدث عن الفضاء بوصفه المكان الذي تجري فيه الأحداث، وينعت عادة بالفضاء الجغرافي. وهناك من يتحدث عنه بوصفه الفضاء الطباعي للنص، ” ويقصد به الحيز الذي تشغله الكتابة ذاتها –باعتبارها أحرفا طباعية- على مساحة الورق”. (بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، ص: 55) ومنهم تحدث عن الفضاء الدلالي الذي تنتجه اللغة عبر الصور المجازية كجِرار جنيت. وقد رأى حميد لحميداني أن هذا التصور للفضاء بعيد كل البعد عن ميدان الرواية، ولا يتساوق مع المدلول البصري للفضاء من حيث كونه مكانا ملموسا أو متخيلا. (بنية النص السردي من منظور النقد الأدبي، ص: 61) ومنهم من تحدث عن الفضاء بوصفه منظورا أو رؤيا كجوليا كريستيفا. وهو تصور مماثل لوجه النظر التي تحدث عنها نقاد كثر في باب السرد الروائي كتوماتشيفسكي، وجان بويون وتودوروف، وجيرار جنيت. ولأن المدلولين الأخيرين بعيدان عن مفهوم الفضاء السردي كما تعارف عليه أغلب المهتمين بالسرد، فإننا سنخرجهما من دائرة اهتمامنا الآن. فيبقى لدينا التصور الأول والثاني، ولأن الأخير لا يسعفنا في تحليل سيرة ذاتية تبدو غير منشغلة بالتشكيلات الطباعية، فإن موضوع دراستنا سينصب على الفضاء بوصفه المكان الذي يتحرك فيه الأبطال.
وهذه الأمكنة التي جرت فيها الأحداث وتحركت فيها الشخصيات في سيرة ليلى أبو زيد الذاتية، هي: القصيبة، وصفرو، والدار البيضاء، والرباط. وهي فضاءات عامة يمكن أن نميز داخلها بين مجموعة من التقاطبات المكانية باعتبارات مختلفة، كالانفتاح والانغلاق، والبساطة والرقي، والقرية والمدينة:
7- الأسلوب:
إذا كان الشعر –مثلا-يقوم على وحدة الأسلوب، حيث يكون حضور الشاعر قويا من خلال هيمنة صوته الأحادي، فإن الرواية، والسيرة الذاتية ربيبتها، تعبق بتنوع الأساليب وتعدد اللغات؛ لأن المتكلم فيها ليس هو الكاتب، بل ” كل شخصية لها صوتها داخل الرواية، إذ يصبح الكاتب نفسه مجرد صوت”. (أسلوبية الرواية، ص: 83) وهو ما أسماه ميخائيل باختين بحوارية الرواية التي تتمظهر من خلال ثلاثة مستويات هي: التهجين، والأسلبة، والحوارات الخالصة.
– التهجين: ويعرفه باختين بقوله: ” هو المزج بين لغتين اجتماعيتين في ملفوظ واحد. إنه لقاء في حلبة هذا الملفوظ بين وعيين لغويين مفصولين بحقبة أو باختلاف اجتماعي أو بهما معا” (أسلوبية الرواية، ص: 83)
– الأسلبة: تبدو الأسلبة والتهجين مصطلحين شديدي التداخل لكونهما يتقاطعان كثيرا. فكلاهما يركز على تداخل اللغات وارتباطها بوعي اجتماعي ما. إلا أننا لا نتحدث عن الأسلبة إلا إذا كان هناك صراع خفي بين لغتين إحداهما ظاهرة والأخرى غائبة. ولتتضح الصورة نورد الفقرة التالية مثلا للأسلبة. وهي فقرة من رواية ” زمن بين الولادة والحلم” لأحمد المديني درسها حميد لحميداني في “أسلوبية الرواية” وهي: ” ووقف الرجل وأوقف، وبكى واستبكى، وكان موقفا جليلا مهيبا. سيرفع الكرب، يرخى اللجام، ترفع عقيرة مولانا الإمام.. وبخ وبخ: بلغني فيما بلغني، وبلغت فيما بلغت …” (أسلوبية الرواية، ص: 83) ففي هذه الفقرة يتضح ما قلناه عن صراع لغتين ووعيين أحدهما مصرح به، والآخر مضمر؛ فهي ” تعبر أولا عن طابع تقليدي لغوي وإيديولوجي، كما أنها تعبر ضمنيا عن موقف معاد لذلك الطابع، بما لحق تلك اللغة ذاتها من تفسخ عند أسلبتها”. (أسلوبية الرواية، ص: 89)
– الحوارات الخالصة: ” ويقصد بها حوار الشخصيات المباشر فيما بينها داخل السرد. وهي تعبر في العمق عن أنماط الوعي ورؤى العالم المتصارعة”. (أوراق لعبد الله العروي: السرد-الأسلوب-التيمات، ص: 54)
وبالعودة إلى السيرة الذاتية لليلى أبو زيد نجدها توظف كثيرا المستوى الأول والثالث من الحوارية، ونعني بذلك التهجين والحوارات الخالصة.
فمن مظاهر الأول ذلك المزج الحاد بين الخطاب الفصيح والخطاب الدارج، حيث ترد عبارات ومقاطع بالدارجة المغربية كما هو الشأن في المقطع التالي:
” فقالت أمي:
– إيوا هذا هو الرجل!
وهزت رأسها وتمطقت.
اختار أحلى المُرين. هم الغربة ولا هم الطلاق. حفظ الله منه بناتنا وبنات المسلمين” (ص: 20)
والملاحظ أن حضور اللغات الشعبية واللهجات المحلية كثير في هذه السيرة؛ لأن صاحبتها تحتفي بالواقعية اللغوية، وتحاول من خلالها أن تظهر الأمانة التي نقلت بها الأحداث.
وأما بخصوص الحوارات الخالصة فهي واردة بكثرة، وما عليك إلا أن تفتح الكتاب لتقف من حين لآخر على مشاهد حوارية تختلف طولا وقصرا وهو أسلوب ما ألفناه كثيرا في السير الذاتية بهذه الكثافة. ولعل الكاتبة تسعى من خلاله إلى نقل الحياة كما هي من غير أن تغير الكتابة من معالمها شيئا، وترك الشخصيات تكشف بذاتها عن وعيها، وتعبر عن رؤيتها للعالم.
وأما الأسلوب الثالث من حوارية الرواية وهو الأسلبة فنعثر على إحدى صيغه في انفتاح السيرة على فن الحكاية الشفوية، والرسالة، والأناشيد الشعبية، والألغاز، والأمثال، والتاريخ.