المعلم إذا أكرمته… أكرمك
مراسلة : ذ .عبد الرحيم هريوى
هل فعلا، اتخذ المعلم مكانة الفقيه في المجتمع المغربي المعاصر؟؟
بكل صراحة نقول: اتركوا المعلم يعمل في هدوء وطمأنينة وسكينة…فلا تشوشوا عليه عالمه…ولاتكبلوه بكثرة التوجيهات التقنية الجافة…وبقرارات لا تحمسه للابتكار والتجديد داخل حجرة درسه… هيئوا له الظروف الجيدة للاشتغال … واعملوا ، يا سادة بجانبه … إنه خبيرفعلا بما يفيد أطفاله الصغار داخل محيطه السوسيوثقافي والسوسيوتربوي و…إنه أمسى بيداغوجيا صرفا لمعاشرته وانخراطه في أكثر من ورش للإصلاح ، ولأكثرمن برنامج ومقرردراسي …وهناك الآن، من باشر العملية التعليمية لأكثر من ثلاثة عقود كاملة…إنه ربى وربى… وعلم وعلم وعلم…الآباء…وهاهو الآن يدرس الأبناء ، وإذاما طبق التقاعد بصيغته الحالية سيبقى حتى يدرس جيل الأحفاد…ألا يستحق هذا المعلم، منكم نوعا خاصا من التكريم والاهتمام ؟؟ …فإذا أكرمتموه أكرمكم…
ربما وجدت نفسي، و قد فكرت مليا قبل الشروع الفعلي في كتابة هذا الموضوع… فالفكرة قد أصبحت جاهزة (طابت) ، والمعلومات والأفكار و كأني أراها، صارت تتزاحم في مخيلتي… وكل شيء قد اختمر بسرعة فائقة، من ألفه إلى يائه حول هذا الموضوع التربوي الصرف، والذي أراه قد لا يخلو من حساسيات من هنا وهناك، وربما لا يكتب فيه إلا القليلون الذين يهتمون بشأن التربية والتكوين ببلادنا … ربما لعدة أسباب سوف لن نتطرق إليها ها هنا ، لأنها ليست موضوعنا… فموضوعنا هو كرامة المعلم، نعم المعلم، ولا أحد غيره…والذي نراه دائما وأبدا يكافح داخل القسم لوحده في الفيافي البعيدة أووسط الجبال الباردة أو وبين كثبان الرمال الحارقة…
وعندما نقول المعلم نعني به رجل التعليم الذي يشتغل بالتعليم الابتدائي، وهنا قد يتساءل القاريء لماذا لم نستعمل كلمة ( أستاذ) ؟ بكل اختصار، لأني أرى أن الحمولة الرمزية والثقافية لكلمة ( معلم ) لها دلالاتها الوظيفية بمهنة التعليم الأساسي …ولها أيضا قيمتها الاجتماعية والثقافية عبر تاريخ البشرية جمعاء .
فالمعلم هو المدرس وهو الأب الثاني للأطفال كلهم، والمثل الأعلى لهم ، والمرشد والموجه والمساعد للأطفال الصغار… ووظيفته الأساسية هي تعليم هؤلاء الأطفال الصغار أبجديات القراءة والكتابة و الحساب، لأن المدرسة الابتدائية مثلها مثل مدرسة السياقة، فهي تستقبل أفواجا مختلفة من الفئات الاجتماعية، لكن لهم غاية واحدة، وهي التدرب على السياقة والحصول على الرخصة القانونية لذلك، وهذا طبعا يتطلب من هذه الفئات المستهدفة الاطلاع على الدروس النظرية والتطبيقية في مجال السياقة، وكل واحد منهم له مستوى معين في مجال الذكاء و قابلية التعلم والتكوين الشخصي والمستوى التعليمي وغيره من خصائص التميز و الفوارق… (البيداغوجية الفارقية) ، والمدرب (مونيتور) ملزم بتدريب وتعليم الجميع، الأبجديات الأولى في السياقة وقد يصادف حالات من هؤلاء المستهدفين تحتاج إلى علاج نفسي. فمثلا عندما يجلس له متدرب معين خلف المقود ، و هو لا يتحكم في نفسه ، حيث تبدأ كل أطرافه ترتعد وترتفع دقات قلبه ويصفر وجهه خوفا… فماذا سيفعل له هذا (المونيتور) إذن في هذه الحالة؟… إنه عمل ليس من اختصا صه، فهو يحتاج إلى جلسات علاجية مع طبيب نفسي فكذلك بالنسبة للمعلم بالأقسام الأولى بالتعليم الابتدائي، فهو أمام أطفال سيقتحمون عالما جديدا لم يألفوه من قبل، وبعدها نقول لهم، في أول وهلة ، اقرؤوا كذا؟ واقرؤوا كذا؟ وهم لايعرفون ماذا سيقرؤون ؟ ولا يفقهون شيئا في عالم القراءة… وبعدها ستبدأ الرحلة الطويلة والشاقة للتعلم بمعيتهم ، فقد تطول أو تقصر حسب عدة معطيات ذاتية وموضوعية ستساهم في عملية تعلمهم. ويا ما حفظنا على ظهر قلب ، عدة حكم ونحن صغار، ولم نعرف كنهها وحقيقتها إلا بعدما تحملنا عبء وثقل مسؤولية تعليم أبناء الشعب داخل حجرات الدرس الباردة، والتي عادة ما تكون مكتظة :(من علمني حرفا صرت له عبدا ) (التعلم في الصغر كالنقش على الحجر) .
فهذا المعلم الذي أخذ مكانة الفقيه الذي كان في زمن من زمان الأمة الإسلامية لما انتشر سلطانها بمشارق الأرض ومغاربها، وتم الاهتمام بالعلم والعلماء، وتطور المجتمع وتطورت معه المعرفة والفكر، ففكر الأمراء والسلاطين في بناء الجوامع في غياب المدارس العصرية حينذاك، و نذكر منها جامع الأزهر بالقاهرة وقرطبة بالأندلس والقرويين بالمغرب والقيروان بتونس وبيت الحكمة في بغداد والجامع الكبير بصنعاء وغيرها…. و كانت عبارة عن معاهد للعلم في أرقى صوره …وبعدها استمر الجامع في لعب أدواره ووظيفته العلمية والتعليمية والفقهية عبر التاريخ الإسلامي، لما كان الآباء يأخذون أطفالهم الصغارإلى الفقيه بالجامع ، ليعلمهم أبجديات الحروف الهجائية أولا ثم بعدها يبدأ خطواته الأولى في تعلم القراءة و الكتابة ، وذلك عن طريق تعرفهم على الحروف الهجائية نطقا وكتابة بواسطة الألواح الخشبية والقلم الذي كان يصنع من القصب، أما الحبر فتتم صناعته من مادة السمخ، والذي يباع عند العطار(و يا ما اشتريناه ب20فرنك في زمننا)… وبعد الاستقلال فكرت الدولة المغربية في دمج مجموعة من الفقهاء، وحاملى كتاب الله في إدماجهم بقطاع التعليم في غياب الموارد البشرية الكافية في ذلك الوقت ، وجلهم قد تقاعدوا الآن … فقد تمت تسميتهم (بالمعلم العارف:العرفاء) أي له دراية ومعرفة حول طريقة وكيفية تعليم الأطفال الصغار القراءة والكتابة وبعض القواعد النحوية البسيطة… وبعدها سيحمل المشعل بعد انقراض هذه الفئة من التعليم العمومي المغربي، المعلم الذي سيلج عالم التدريس بعدما يتم تكوينه في أحد المراكز التربوية بشكل بيداغوجي وعلمي على ما جد من الطرق في مجال التدريس والمدارس التربوية العالمية، وعلم النفس الطفل… ويتكون بذلك نظريا وتطبيقيا حتى يقوم بعمله داخل الفصل بشكل مهني وباحترافية تامة، و تتطور طرق تدريسه للأطفال كلما تقادم في مهنة التدريس.
إذن، المعلم المعاصر أخذ مكانة الفقيه الذي كان في وقت من الأوقات يعتبر العنصر الأول والأساسي في تعليم الصبية ( الخربشات ) الأولى في مجال الكتابة عبر ما كنا نسميه :(التحناش) ، فالفقيه يكتب الحروف على لوحة الصلصال بقلم القصب دون مداد، ويظهر منها بعض الشيء حتى يسهل على الطفل رسمها بحبر ( المسخ) ، وبذلك سيتدرب ويتعود ويتم ترويضه على طريقة الكتابة وإكسابه عدة مهارات من قبض للقلم والدقة في اتباع الأثر وفن رسم الحرف بالخط العثماني، وبعدها يتنقل إلى حفظ الأحزاب القرآنية … أليست هذه طريقة مغربية رائدة في تعليم أطفال المغرب، في الزمن الذهبي للتعليم.؟ فجل هؤلاء، تقلدوا مناصب محترمة. و استفادوا من الجامع سواء بالحي أو بالدوار؟ فاسألوا جيل الستينات والسبعينات من الآباء فعندهم الخبر اليقين؟؟ أما المعلم الحالي فيعتمد في تدريس الأطفال الصغار على مؤهلاته الشخصية، وتكوينه الذاتي في غياب شبه كلي لأي تكوين مستمر، وقد ساهمت الترقية الداخلية مؤخرا في تثقيف رجال التعليم، ثقافة علمية وبيداغوجية في ميدان التربية والتكوين، وذلك من خلال مواكبتهم لكل المستجدات في مجال التربية والتكوين، والإلمام بعلم النفس التربوي ومدارسه في مجال التدريس (المدرسة السلوكية /التكوينية/التحليل النفسي/…) وكل هذا جعل المعلم الآن ينتج ويبتكر في مجاله وحقله التربوي/ التعليمي / التعلمي، وساعده أيضا في ذلك الاستفادة من مزايا تكنولوجيا الإعلام والتواصل عبر الوسائل الحديثة والسريعة في نشر المعرفة وتطويرها وتقاسمها ولم تبق المعرفة محتكرة من طرف أشخاص بعينهم مما يجعلها كامتياز وترف فكري ومعرفي يكسبونه لوحدهم… حان الوقت كي نبدأ في العد العكسي في كل شي ء كان يضايق المعلم داخل قسمه بمعية أطفاله، مع انطلاق الورش الجديد في قطاع التربية والتكوين حول التدابير ذات الأولوية بجميع الأكاديميات…
فهذا المعلم المغربي يكد ويجتهد بما يجده في محيطه من عدة (ديداكتيكية) و وسائل بسيطة، و يعمل ما في وسعه لإحضار ما يمكن إحضاره لأطفاله من أجل تقريب المفاهيم والمعارف والمضامين بل أصبح يتشبع بالطرق البيداغوجية الحديثة نظريا، ويجربها عمليا ليسائل نفسه هل هي صالحة لأطفاله ؟ أم يجب إدخال ما يمكن إدخاله حتى تقوم بدورها الفعال، وهو في حاجة ماسة إلى دعم معنوي ومادي من طرف الجميع وخاصة من طرف أولئك الذين يبحثون له دائما عن نقط ضعفه كي يشككون في قدراته ويحبطون من عزيمته… وبصراحة إن هؤلاء الذين يقفون حجرة عثرة في طريق المعلم، واشعاعه، فقد حان الوقت بأن يراجعوا مواقفهم نحوه، ويعتبرونه شريكا استراتيجيا في أي إصلاح منشود لمنظومتنا التعليمية… ولا ينسوا بأنهم كانوا مكانه في يوم من الأيام، قبل تغيير الإطار، و يعرفون جيدا بأن القسم أصعب حلقة في النسق التربوي /التعليمي برمته… فكلنا جربنا القسم وبرودة حجراته… وأقسامه المشتركة، من القسم الأول (1) إلى القسم السادس(6)…وضجيجه وأعصابه وكثرة الوقوف بين صفوفه، وأمام سبورته، وبشكل مستمر مما يجعل المعلم هو الضحية… فتراه عرضة لأنواع شتى من الأمراض (سيا تيك وما جاوره)… المعلم يحتاج دائما إلى من يرفع من معنوياته وعزيمته ويضع على عينيه نظارات خضراء ليرى اللون الأخضر، لون الحياة، عند كل زيا ة له، داخل حجرته الباردة (من أي كان، وكيفما كان)، فالكل مطالب الآن بتقدير هذا الرجل في المجتمع وإكرامه، فإذا أكرمت المعلم أكرمك (قم للمعلم وفه التبجيلا//كاد المعلم أن يكون رسولا) فأحمد شوقي عرف قيمته وأكرمه، ومدحه بهذا البيت الشعري المميز، فكيف لا يكرمه مجتمعه ، وهو يقدم له أجل خدمة ؟… فبإكرامنا للمعلم سيصلح شأن التعليم برمته، لأنه هو الرحى الذي تدور حوله باقي العناصر الأخرى المكونة للمنظومة التعليمية…إنها حياة المستقبل الجميل الذي يساهم في صنعها هذا المعلم لهؤلاء الأطفال الأبرياء…اللهم ربنا ارحم برحمة الواسعة جميع المعلمين الذين علموننا في الصغر رحمة عامة، فهم الذين كانوا السبب الأول والأخير في تعلمنا أبجديات الحروف الهجائية والقراءة والكتابة في الصغر. آمين .