المغرب في عهد المولى إسماعيل 1672- 1727
– اعتمد المولى إسماعيل على جيش البخاري بالأساس:
تركب الجيش الإسماعيلي من ثلاث فروع رئيسية هي: عبيد البخاري، ويمثلون القوات الأساسية، ثم قبائل الكيش التي أصبح دورها ثانويا بالقياس لعبيد البخاري، ثم الفرق المجندة من المدن والقبائل ومن المجاهدين.
* عبيد البخاري:
شكل أهم قوة عسكرية وأطلق عليه هذا الإسم نسبة ليمين الطاعة الذي كان الجيش يؤديه على كتاب الإمام البخاري، وتكونت نواته الأولى من 2000 من الجنود الزنوج الذين تم تجنيدهم من أجل محاربة المولى الرشيد، فكوَّن المولى إسماعيل منهم أول فيالق جيش البخاري وعنهم تفرع جيش ضخم العدد ومحكم التدريب.
وعزز السلطان عبيد البخاري بتجنيده للعبيد المتفرقين في المدن والبوادي، ونظم حملات على تمبكتو لجلب العبيد من السودان، كما جمع الحراطين من مختلف القبائل والمدن وأدمجهم في جيش البخاري.
وبهذا يكون قد تكون جيش معزول عن كل فئة اجتماعية مغربية مرتبطا بشخص السلطان فقط، وكان عليه أن يضمن جباية الضرائب ومراقبة الطرق التجارية وحماية الدولة من المتمردين والأعداء وتوسيع نفوذها وتحقيق مركزيتها، دون كبير الإعتماد على تحالف أو مساعدة الشرائح الإجتماعية التقليدية كالزوايا وأعيان المدن الذين كانوا يساهمون من قبل في تزكية الحكم القائم مقابل الحصول على امتيازات، فتشكل جيش قادر على فرض مركزية الدولة الإسماعيلية بدون تقاسم السلطة مع أية هيئة اجتماعية أخرى، بل وقادر أيضا على ردع الكيانات الراغبة في اللعب على التوازنات أو المهددة للمركزية التي أخذت في تطبيقها الدولة.
* قبائل الكيش:
تركبت قبائل الكيش من الأوداية الذين أنزلهم السلطان بسايس لحراسة مدينتي مكناس وفاس من هجمات القبائل الجبلية، ونقل السلطان الشبانات من حوز مراكش إلى ضواحي وجدة للتصدي للأتراك بالجزائر ولمراقبة قبائل بني يزناسن، كما أقام في سهل تادلا قبائل من الكيش لمواجهة الأطلس المتوسط ولضمان سلامة الطريق السلطانية الرابطة بين مكناس ومراكش.
وبلغ مجموع قبائل الكيش ثلاثة فيالق موزعة في كل من سايس وتادلا وفي المغرب الشرقي وأطلق إسم جيش الأودايا تغلبيا على كل قبائل الكيش التي قدم لها السلطان بعض الأراضي لاستغلالها وللإستقرار فوقها مقابل الخدمة العسكرية.
* المجاهدون والفرق المجندة من المدن والبوادي:
وهم فئات من سكان البوادي والمدن كان يتم تجنيدهم لتكوين فرق عسكرية تنظم للجيش الرسمي، كما كون المجاهدون المشاركون في حركة الجهاد جيشا إضافيا سهر على تشكيله شيوخ الزوايا ووضعوه في خدمة الدولة ضد التهديد الأوربي، فكانوا يتصدون للسفن الأوربية ويساهمون في تحرير بعض الثغور المحتلة.
– عمل المولى إسماعيل على تنويع الضرائب لتوفير مداخيل مهمة:
بما أن موارد الجهاد البحري وأعشار التجارة الخارجية كانت ضعيفة جدا بالقياس للقرون السابقة، إضافة إلى الحاجيات الكبيرة للدولة المركزية التي سعى السلطان في تدعيمها، فإن الضرائب قد تعددت، فبالإضافة إلى الزكوات والأعشار، جبيت ضرائب كالنائبة التي فرضت من أجل تحرير الثغور المحتلة ثم أصبحت ضريبة دائمة تدفع نقدا أو عيناً، وتزايدت المكوس على البضائع المارة بالأسواق وبالموانئ، كما أن القبائل كانت تتحمل نفقات مرور الجيش فوق أراضيها، ومئونة الحاميات المقيمة بالقصبات، كما تقدم الخيول المسرجة لاستعمالها في الحركات وعند تـنقلات الجنود.
وقد توصل المخزن الإسماعيلي بعد 25 سنة من الحركات المستمرة إلى تحصيل جباية الضرائب من معظم مناطق البلاد، إلاَّ أن بعض الهيئات الإجتماعية كانت معفية من أداء الضرائب كقبائل الكيش والشرفاء وبعض الزوايا المساندة للسلطة المركزية، وكان هذا الإعفاء يمتد على سكان قرية أو منطقة بكاملها – تدخل وفق ظهائر سلطانية- تحت تصرف شريف ما أو زاوية ما.
– هيمنة الدولة على موارد التجارة وعلى عائدات الجهاد البحري:
راقبت السلطة المركزية حركة الـجهاد البحري ووجهة أغلب عائداته لبيت المال، فمنذ 1600 أخذ القائمون بالجهاد البحري يسلمون الأسرى الأوربيين للدولة التي أصبحت تستفيد من مداخيل افتدائهم، وملكت الدولة نصف السفن الجهادية ورفعت من الأعشار المفروضة على المراكب والسفن الباقية في ملك المجاهدين بهدف تقليص هذا النشاط التجاري غير العادي لضمان نمو المبادلات التجارية مع أوربا وأيضا للحد من نفوذ الزوايا المشاركة في الحركة الجهادية، كما ساهم التفوق التقني للسفن الأوربية في المزيد من تدهور هذا النشاط.
وقد عمل المخزن الإسماعيلي على مراقبة خطوط التجارة الداخلية، وأهمها خطان أساسيان يربط أحدهما بين جنوب البلاد وشمالها انطلاقا من الصحراء ومرورا بتارودانت ومراكش ومكناس فطنجة، ويربط الآخر بين الشرق والغرب بدأً من تلمسان وتازة وفاس فسلا، وأقيمت قصبات على طول هذين الخطين التجاريين الرئيسيين، فكانت الحاميات العسكرية تسهر على حماية القوافل التجارية، إضافة إلى أن تلك القصبات كانت محطات للنزول والتزود بما تحتاجه القوافل.
وبذلك انتهى دور التجارة الحرة التي كانت في يد التجار وعوضتها تجارة مراقبة من لدن المخزن، وبالتالي شكلت مداخيل التجارة البعيدة المدى وموارد الجبايات الأساس الإقتصادي الذي قامت عليه قوة الدولة العلوية إلى جانب الأداة العسكرية.
الدولة المركزية الإسماعيلية والبوادي:
– تمرد قبائل سوس:
تعود بعض أسباب تمرد قبائل الجنوب إلى أنها كانت تستفيد من التجارة الصحراوية، وحيث أن المولى إسماعيل قد سعى إلى فرض مركزية الدولة وتحكمها في البضائع والطرق التجارية، فقد كان هذا دافعا إلى أن تبايع قبائل سوس أحمد بن محرز ابن أخ المولى إسماعيل حتى تحتفظ لنفسها بموارد التجارة القائمة بها.
وقد حاول جاهدا ابن محرز هذا الاستيلاء على مراكش وضمان خضوع قبائل الحوز، وذلك من أجل السيطرة على التجارة ما بين تارودانت ومراكش، حتى امتد نفوذه على الجنوب الغربي وتجارته بما فيه مناطق الصحراء وإقليم سوس فحوز مراكش، كما تمكن أيضا من التوغل شمالا محاولا ضم مدينة فاس والسيطرة على تجارة المغرب الشرقي، الشيء الذي دفع السلطان المولى إسماعيل إلى تجنيد عدة حركات للقضاء عليه وعلى حركته حتى تم مقتله صدفة ودخول الجيش الإسماعيلي لتارودانت عنوة.
ومع ذلك ظل سوس ملجأً للمتمردين، فقد ثار أيضا المولى محمد العالم ضد أبيه بعدما استخلفه على سوس، لكنه دعا الملك لنفسه هناك وهاجم مدينة مراكش، فوجه له المولى إسماعيل ابنه زيدان الذي تمكن من القضاء عليه.
– تمرد القبائل الجبلية التي كانت ترغب في النزول نحول السهول الخصبة:
استهدفت القبائل الجبلية من صنهاجة ومصمودة وزناتة وغيرها من القبائل المقيمة بالأطلس المتوسط والكبير وبجبال الريف، النزوح نحو السهول الخصبة، واندفعت نحوها على شكل موجات متلاحقة، الأمر الذي تطلب من المولى إسماعيل التدخل ضدها بجميع إمكاناته المادية والبشرية، وقد نشبت معارك قاسية وعنيفة ما بين الجيش الإسماعيلي والفرق القبائل الجبلية، كما أنه توغل داخل السلسة الجبلية وتمكن من إخضاع قبائلها المتمردة وإقامة حصون وقصبات أخرى داخلها.
– شجع المولى إسماعيل على قيام زوايا حديثة النشأة، وحد من نفوذ الزوايا المعارضة لسلطته:
ساعد المولى إسماعيل في نشأة وتطور مجموعة من الزوايا المساندة لسلطته كالزاوية الوزانية والدرقاوية والناصرية والشرقاوية وغيرهم، فكان يقوم بتقديم ظهائر لتكريم الزوايا وتوقيرهم وإعفائهم من كل ما يوظفه المخزن من الكلف والفرائض، وفي المقابل تكلفت الزوايا بدعوة سكان المناطق التابعة لها إلى طاعة أولياء الأمر بالإضافة إلى عملها الديني ونشر طرقها الصوفية.
كما واجه الزوايا المعارضة أو الراغبة في الإنسلاخ عن السلطة المركزية بتجنيد مجموعة من الحركات بهدف القضاء عليها وطمس معالمها وردعها وتوقيف مطامعها.
وبما أن قوة الزوايا المركزية كانت تكمن في عملها اللامركزي وفي تغلغلها داخل البوادي، فقد فرض المولى إسماعيل على جميع الزوايا أن يكون مقرها فاس حتى يسهل عليه مراقبتها.
كما تبنى المولى إسماعيل القيام بالجهاد بدلا من الزوايا، فطرد جيشه الأجانب من معظم الثغور المغربية، وبذلك قطع الطريق أمام طموحات الزوايا التي كانت تتخذ من الجهاد دعامة رئيسية لتقوية نفوذها.
الدولة المركزية والمدن المتمردة: ( ثورة فاس كمثال )
أعلنت فاس بيعتها لابن محرز بينما كان يواجه عمه المولى إسماعيل بمراكش فحاصرها المولى إسماعيل 15 شهرا إلى أن أعلنت المدينة استسلامها، كما أن مسألة رقية الحراطين بفاس شكلت وجها آخر للنزاع بين المخزن وسكان فاس، إذ استفتى السلطان علماء فاس في مسألة تسجيل الحراطين في السجل العسكري (ديوان عبيد البخاري)، أي أن يعتبر حراطين المدينة كباقي الحراطين المجلوبين من مختلف البوادي والمدن، جزءاً من جيش البخاري تسري عليهم نفس شروط التي تسري على عبيد البخاري. وقد اعتبر سكان فاس هذه المسألة تنقيصا جديدا من روح استقلالهم ووسيلة أخرى لتعزيز السلطة المركزية داخل مدينتهم، فأفتى علماء فاس بعدم القبول مما دفع السلطان إلى استعمال الشدة لفرض السلطة المركزية.
العلاقات الخارجية:
– عمل السلطان المولى إسماعيل على إيقاف المحاولات التوسعية العثمانية التي استهدفت التراب المغربي:
شجع الحكام الأتراك في الجزائر التمردات القائمة في المغرب، وكانوا يقومون بالغارات على الحدود المغربية الشرقية رغبة في توسيع مناطق نفوذ الإمبراطورية العثمانية حتى المحيط الأطلنتي غربا، غير أنهم واجهوا رد فعل قوي من طرف المولى إسماعيل لتنتهي المواجهة بين الطرفين بالإتفاق على جعل نهر تافنا حد فاصلا بين التراب المغربي والتركي.
غير أن المناوشات استمرت بين الطرفين الشيء الذي دفع السلطان إلى التحفظ والإحتياط من توسعات الأتراك ومن تحالفاتهم السياسية مع القوى الأوربية.
– تميزت العلاقات السياسية مع أوربا بتحرير الثغور المحتلة وبالحد من حركة الجهاد البحري وبتبادل الأسرى:
نظم المولى إسماعيل مقاومة مسلحة ضد الأجانب المحتلين للثغور الأطلنتية، فتمكن بذلك من تحرير مجموعة من الثغور أهمها المعمورة وطنجة والعرائش وأصيلا.
أما عن الجهاد البحري فقد ظلت وسائله تقليدية لدى المغاربة المجاهدين في الوقت الذي تطورت فيه السفن والوسائل الملاحية والعسكرية البحرية لدى الأوربيين، فـأصبحت البحرية الأوربية تطارد السفن الجهادية المتصدية لها وتحاصر المراكز التي يتمركز فيها المجاهدون وتقنبلها، كما أن استقرار الإنجليز بجبل طارق قد ساهم في المزيد من تقلص حركة الجهاد البحري لتحل محله المبادلات التجارية الرسمية.
وبذلك تأثر الجهاد البحري بالتفوق التقني وبمواجهة البحرية الأوربية من جهة، وبمراقبته من طرف الدولة في سعيها للمركزية ( إزاء الزوايا ) من جهة أخرى، بهدف خلق مبادلات تجارية دبلوماسية رسمية مع أوربا.
وقد عمل السلطان المولى إسماعيل على حل مسألة الأسرى من الجانبين الأوربي والمغربي، فطالب بتبادل الأسرى مع الدول الأوربية خاصة فرنسا، غير أن لويس الرابع عشر لم يقبل مبدأ تبادل الأسرى رأسا برأس، لكون ذلك يعني إفراغ السفن الفرنسية من الأسرى المغاربة الذين كانوا على مهارة كبيرة في التجديف والأعمال البحرية داخل السفن الفرنسية، الأمر الذي يؤدي إلى إيقاف هذه السفن عن العمل، فتعرقلت بذلك المفاوضات حول الأسرى بين فرنسا والمغرب، وتأثرت معها أيضا العلاقات التجارية التي أخذت في التناقص.
– قامت العلاقات التجارية بين المخزن والدول الأوربية باستثناء فرنسا على أساس تبادل المصالح:
نمت التجارة مع أوربا خلال العقود الثلاثة الأخيرة من القرن 17م، بشكل تضاعفت معه واردات بعض الموانئ المغربية خاصة تطوان وسلا، غير أنه ومع بداية القرن 18م، اشتدت مراقبة المخزن لتجارة كثير من الدول الأوربية، فارتفعت الضرائب الجمركية، ومنع السلطان تصدير مجموعة من المواد نحو أوربا، وفرض على التجار الأوربيين أخذ الإذن لتصدير بعض المواد الأخرى، الأمر الذي أدى إلى تقلص المبادلات الخارجية بصفة عامة، ومنذ أوائل القرن 18م، انقطعت العلاقات التجارية مع كل من فرنسا وإسبانيا فيما استفادت انجلترا من ذلك، فوقعت مجموعة من المعاهدات التجارية نصت على إنشاء مجموعة من القنصليات الإنجليزية بالموانئ المغربية وتوسيع التجارة ما بين البلدين وحرية توقف السفن الإنجليزية في الثغور المغربية وحرية مرور الإنجليز عبر الطرق البرية داخل التراب المغربي، وبذلك احتكرت انجلترا القسط الأكبر من تجارة المغرب الخارجية.
تقييم العمل الإسماعيلي:
استغرق حكم المولى إسماعيل زهاء 55 سنة، في حين لم يتمم مرض موته الثلاثة أشهر، فكانت وفاته سنة 1727م، ولم يقم بترشيح أحد أنجاله لولاية العهد من بعده، وقد بدل محاولات وجهود كبيرة لإعادة تنظيم الجيش، مؤلفا بذلك جيشا يشكل عنصر البخاري غالبيته، هذا الجيش بمعونة النضال الشعبي وبقيادة حازمة وعنيدة من العاهل المغربي، تمكن من افتتاح عدد كبير من الثغور واستخلاصها من المستعمر الأجنبي، وأن يضع حدا لثورات الأمراء، وبالتالي للمحاولات الإنفصالية المتسترة بظل هؤلاء الأمراء.
ولقد عمل المولى إسماعيل على ضبط الأمن وتسهيل حركة مرور القوافل والمسافرين بفضل الشبكة الأمنية التي بثها في مختلف أرجاء البلاد والتي كان قوامها الحصون والأبراج والقلاع والقصبات، وكلها مجهزة بالرجال من الجيش النظامي أو من القبائل المستوطنة بنفس المنطقة، وبهذا فقد عاش المغرب فترة طويلة من الأمن تفرغ خلالها السكان للعمل المنتج ذو المردودية العالية.
كما امتد نفوذ المولى إسماعيل إما عن طريق حملاته العسكرية أو بصفة تلقائية من السكان، إلى شنقيط وتخوم السودان الغربي، وما وراء النيجر، وبلغ تلمسان وشلف في توغلاته بالمغرب الأوسط، في حين جعل المولى إسماعيل من مكناس عاصمة لملكه وشاد بها منشئات جديدة عمرانية وإدارية وعسكرية مثلما فعل في جهات أخرى من البلاد.
ولقد كان المولى إسماعيل يعظم الصلحاء ويتبرك بهم ويشيد لبعضهم الأضرحة، ويستشير كبار الفقهاء ويزكي آرائهم ويتلقى من بعضهم آراء صريحة بشأن أسلوب الحكم والقيادة وقضية تجنيدهم، لكن الضرورة كانت تقتضي تكوين جيش نظامي قوي يكون قادرا على ترسيخ أركان الدولة وتحقيق مركزيتها.
وبكلمة موجزة، كان المولى إسماعيل مسلما عربيا صارما في مواقفه الوطنية والإسلامية، شديد البطش عند الإقتضاء، بالمناهضين للوحدة حسب مفهومه وخطته، كان أيضا شديد الحذر في تعامله مع الجهات الأوربية ولكنه في كل حال كان صريحا صادق القول والعمل.