هسبريس من الرباط
السبت 05 أبريل 2014 – 04:30
قدم حسام بلحجام، أستاذ باحث في علوم التربية وتدريس اللغات، رؤيته الخاصة التي تهم تشخيص وضعية اللغة الإنجليزية في المنظومة التعليمية بالمغرب”، معتبرا أنها “لغة خضعت لنوع من التحييد الممنهج من قبل حراس المصالح الفرانكفونية ودعاة التعريب، ومناصري الدارجة”.
ودعا بلحجام، في مقال توصلت به هسبريس، إلى منح اللغة الإنجليزية قيمتها التي تحوزها، ووضعها الاعتباري بين اللغات داخل المدرسة العمومية المغربية، باعتبارها اللغة التي أصبح العلماء والأدباء والفلاسفة ورجال الأعمال والسياسة والسينما يكتبون ويتحدثون بها، لكونها لغة المستقبل”.
وهذا نص مقال حسام بلحجام كما ورد إلى الجريدة:
في زمن الأنوار العربية التي نتذكرها تارة حسرة على الحاضر، أو افتخارا بماضي عريق، زمن الخليفة العباسي المأمون ـ ومن بعده ـ الذي أنشأ “بيت الحكمة” في بغداد رغبة منه في رفع أفق الوعي العربي الذي كان يتخبط في صراعات مذهبية دينية، وتأسيس دولة تنهل أحكامها من الشرع الإسلامي القائم على العقل النقدي المنفتح، وتأسيس حوار حضاري بين الأمم السابقة وفتح أفقا “للممكن” الذي كان يرزح تحث التسلط الفكري القائم على التباكي تارة، والتقديس ثارة أخرى للأمر الواقع، تمكنت البلدان العربية و الإسلامية أن تحجز لنفسها مكانا في تاريخ العلم والمعرفة.
ولم يكن ذلك ممكنا لو لم يقف مثقفو تلك المرحلة وقفة تأمل نقدي إزاء واقعهم الذي يشبه واقعنا في كثير من تجلياته إن لم يكن أسوأ، وقفة تجسدت بالأساس في تقييمهم للوضع الثقافي والفكري، والانفتاح على اللغات الحية التي كان العلم يكتب بواسطتها آنذاك وهي اللغة اليونانية والسريانية، وتكثيف الجهود من أجل تدريسها والترجمة عنها، حتى استطاع الأفراد الاندماج في عصرهم واستشرفوا بذلك مستقبلهم.
بحيث ساروا في زمن واحد مع باقي الأمم الأخرى المتقدمة بل سجلوا سبق معرفي وعلمي وأنتجوا خطابا متجددا وباللغة الأم، أجبروا كل الأمم على الاعتناء باللغة العربية وبالعلم الذي كان يكتب بواسطتها. وإن كانت إرادة دعاة التمسك بالماضي قد وأدتها في مهدها وأعادت بوصلة التقدم إلى أن تسلك مسارا تراجعيا مازال قائما إلى يومنا هذا. إنها تجربة حضارية تدعونا إلى تأمل واقعنا الذي يشبه في كثير من جوانبه تلك اللحظة التي سبقت تجربة ” بيت الحكمة ” العباسي، ويعتبر مجال التعليم الذي يعتبر مؤشر تقدم ورقي الأمم في عصرنا مثال للتيه الذي يبصم هذه المرحلة التي نعيشها ونتعايش معها مكرهين.
تعاني منظومتنا التربوية من اختلالات عميقة، تتعدد أسبابها ودوافعها، منها ما يرتبط بالسياسة التربوية العامة التي تؤطر المجال التربوي وتشابكها مع المصالح والأيديولوجيات المختلفة، ومنها ما يرتبط بالتدبير المزاجي والارتجالية الحزبية الضيقة التي تجعل من التعليم أفقا ومجالا للمزايدات السياسوية الضيقة، دون أن نحيد منظومة القيم الاجتماعية التي مازالت تحمل ضغائن للمدرسة العمومية تعشش في اللاوعي الجمعي، منذ الحقبة الاستعمارية، انعكست سلبا على المردود التعليمي التعلمي على جميع المستويات، وإن كان مجال اللغات الأجنبية هو أكثرها تضررا، وأخص بالذكر اللغة الإنجليزية، التي خضعت لنوع من التحييد الممنهج من قبل حراس المصالح الفرنكفونية من جهة، ودعاة التعريب من جهة ثانية، والتدريج ” المصيبة ” من جهة ثالثة، حتى ولو كان الثمن مستقبل الوطن ومصائر أجيال أصبحت تجد نفسها بعد التخرج من المدرسة العمومية والجامعة المغربية مفصولة عن سياقها الكوني، وتعيش وضعا ثقافيا وعلميا ومعرفيا من الدرجة الثانية.
“نحن لا نقرأ إلا ما يكتب بالفرنسية أو يترجم إليها”
في هذه الورقة لا أطل من نافذة ثالثة من مكتبي المكيف بعد عيوش، وأطالب باعتماد اللغة الإنجليزية كلغة أولى أو ثانية أو حتى ثالثة، بل نتمنى فقط أن تعطى للغة الإنجليزية قيمتها التي تحوزها ووضعها الاعتباري بين اللغات داخل المدرسة العمومية المغربية، باعتبارها اللغة التي أصبح العلماء والأدباء والفلاسفة ورجال الأعمال والسياسة والسينما والتعليم…يكتبون ويتحدثون بها، إنها لغة المستقبل ومن يهمه مستقبل وطنه ويخاف على ناشئته من التخلف الحضاري الذي يمكن أن يحطم الإرادة العامة، فإنه يأخذ هذا الوضع بعين الاعتبار، وللأسف هي أمور غائبة عن أصحاب القرار في المغرب، وإن كنا نسمعها هنا وهناك من أمثال الأمين العام لحزب الاستقلال حميد شباط، بل حتى من وزير التعليم العالي الحسن الداودي، فإنها لا تتعدى كونها مطالب فردية لا تعبر عن إرادة الدولة، أو الوزارة الوصية على التعليم، لأنها لا تملك إرادة حقيقية لإصلاح منظومة التعليم التي من المفروض أن تبدأ- وهي التي تتحدث عن الجودة- من جعل التعليم يواكب متطلبات العصر على مستوى المناهج التعليمية والمعلومة التربوية والمعرفية، وهذا متعذر ما دمنا غير قادرين على فهم لغة الجماعة العلمية وتمثلها.
في الوقت الذي نجد فيه الدول الكبرى – أمثال فرنسا نفسها – قد اندمجت في هذا الواقع الجديد الذي يفسح المجال أمام توسيع نطاق التدريس باللغة الإنجليزية داخل المدرسة العمومية والجامعات، من أجل مواكبة الحضارات المتقدمة والمشاركة في هذا التقدم وفي صنع المستقبل. في لحظة أصبحت فيها اللغة الإنجليزية خاصة بعد الثورة المعلوماتية، هي لغة التفاهم الكوني، بعد أن تراجعت اللغة الفرنسية، التي يتنبأ لها بأن تصبح لها قيمة تاريخية فقط كاللاتينية… ولكن نحن مصرون على عكس حركة التاريخ ومبادئ المنطق، أن لا نحلق إلا في سماء فرنسا التي أصبحت تحلق في سماء العالم الأنجلوساكسوني، ولا نرى الأمور إلا من وراء حجاب فرنسا.
هذا لا يعني أننا نبخس المجهودات الجبارة التي قامت بها الدولة المغربية منذ سنة 1968 من أجل اعتماد تدريس اللغة الإنجليزية، التي تمثلت بالأساس في اعتماد مقاربات بيداغوجية متنوعة اتسمت ثارة بالتكامل وثارة أخرى بالتناقض، وهذا أمر طبيعي بالنسبة لبلد مازال في طور البحث عن الذات في مجال التعليم.
إلا أن غياب رؤية شاملة أو تغييبها – كي لا يغضب حراس المعبد الفرنسي القديم – تبقى هذه المحاولات التي تلتهم الكثير من الوقت والمال، عاجزة عن تحقيق قفزة نوعية يتم بواسطتها سد الكثير من الفراغات التي تعيق الخروج من التيه الذي تعانيه منظومة التعليم ببلادنا وخاصة على مستوى جودة التعلمات التي ترتبط بجودة طرائق إيصالها وبطبيعة المعارف التي يتم تلقينها، وهنا لا يجب التركيز على القيمة التاريخية لما يتم تلقينه، بل بالقيمة المستقبلية للفكرة، ما يجعل المتعلم قادر على التعايش مع قيم عصره و على فهم واقعه والانخراط فيه وعلى استشراف مستقبل الأفكار وآفاقها، ولم لا المساهمة في بناء هذا المستقبل، وهذه المعادلة يبقى أمر تحققها رهين بتعليم المتعلم اللغة التي ينتج بها العلم والمعرفة.
أعتقد أن ما ينقصنا ليست هي الحلول والطرائق البيداغوجية المستوردة على كثرتها، ما ينقصنا في مجال منظومة التعليم هو تشخيص مرض هذه المنظومة، والوقوف على المكامن الحقيقية للخلل فيها، ونحن لا نطرح اعتماد أكثر للغة الإنجليزية داخل المدرسة العمومية وتدريسها وتوسيع نطاق تداولها، باعتبارها الحل السحري لمعضلة التعليم، بل كإمكانية لتطوير الذات والانخراط في الإنتاج العالمي للعلم والمعرفة، في أفق تحقيق حركية في جسمنا الثقافي والفني والعلمي والفلسفي..المعتل، والإبداع بواسطة اللغة الأم.