حرق المصحف الكريم جريمة لا تغتفر
بقلم الأستاذ الدكتور محمد البدوي
بين الفينة والأخرى يطلع علينا من السفهاء من يريد النيل من صاحب الرسالة العصماء ، من يريد حجب الشمس في علاها، والقمر إذا تلاها ، من يريد أن يدنس البحر اللُّجِّي الذي يدفع عن نفسه الخبث ويرمي الجِيَف .
يطلع علينا هذه المرة أحد الحمقى المخبولين وهو يمعن في حرق القرآن الكريم، يتفنن في النيل من دستور أمة ، هي خير أمة أخرجت للناس ، وما ضَرَّ بَحرَ الفُراتُ يَوماً /// إِن خاضَ بَعضُ الكِلابِ فيهِ.
ومعذرة لك يا كلب ! وهل يليق أن نشبه بك هذا الذي فجر ، وقدر وفكر ثم قدر، ثم لا محالة سيكون له وِزْر مما قدر؟
لو رجع به الزمن لرأى بإم عينه ما فعل الله بمن تجرأ على رسوله الكريم ، فهذه سورة من المفصل ، من القصار تسب وتلعن أبا لهب وامرأته إلى يوم الدين
﴿تَبَّتۡ یَدَاۤ أَبِی لَهَبࣲ وَتَبَّ مَاۤ أَغۡنَىٰ عَنۡهُ مَالُهُۥ وَمَا كَسَبَ سَیَصۡلَىٰ نَارࣰا ذَاتَ لَهَبࣲ وَٱمۡرَأَتُهُۥ حَمَّالَةَ ٱلۡحَطَبِ فِی جِیدِهَا حَبۡلࣱ مِّن مَّسَدِۭ ﴾ [المسد 1-5] . وإليك واحدة من القصص التي رواها ابن مسعود رضي الله عنه وأرضاه
“بيْنَما رَسولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ يُصَلِّي عِنْدَ البَيْتِ، وَأَبُو جَهْلٍ وَأَصْحَابٌ له جُلُوسٌ، وَقَدْ نُحِرَتْ جَزُورٌ بالأمْسِ، فَقالَ أَبُو جَهْلٍ: أَيُّكُمْ يَقُومُ إلى سَلَا جَزُورِ بَنِي فُلَانٍ، فَيَأْخُذُهُ فَيَضَعُهُ في كَتِفَيْ مُحَمَّدٍ إذَا سَجَدَ؟ فَانْبَعَثَ أَشْقَى القَوْمِ فأخَذَهُ، فَلَمَّا سَجَدَ النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ وَضَعَهُ بيْنَ كَتِفَيْهِ، قالَ: فَاسْتَضْحَكُوا، وَجَعَلَ بَعْضُهُمْ يَمِيلُ علَى بَعْضٍ وَأَنَا قَائِمٌ أَنْظُرُ، لو كَانَتْ لي مَنَعَةٌ طَرَحْتُهُ عن ظَهْرِ رَسولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ، وَالنبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ سَاجِدٌ ما يَرْفَعُ رَأْسَهُ حتَّى انْطَلَقَ إنْسَانٌ فأخْبَرَ فَاطِمَةَ، فَجَاءَتْ وَهي جُوَيْرِيَةٌ، فَطَرَحَتْهُ عنْه، ثُمَّ أَقْبَلَتْ عليهم تَشْتِمُهُمْ، فَلَمَّا قَضَى النبيُّ صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ صَلَاتَهُ، رَفَعَ صَوْتَهُ، ثُمَّ دَعَا عليهم، وَكانَ إذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وإذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ، عَلَيْكَ بقُرَيْشٍ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، فَلَمَّا سَمِعُوا صَوْتَهُ ذَهَبَ عنْهمُ الضِّحْكُ، وَخَافُوا دَعْوَتَهُ، ثُمَّ قالَ: اللَّهُمَّ، عَلَيْكَ بأَبِي جَهْلِ بنِ هِشَامٍ، وَعُتْبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وَشيبَةَ بنِ رَبِيعَةَ، وَالْوَلِيدِ بنِ عُقْبَةَ، وَأُمَيَّةَ بنِ خَلَفٍ، وَعُقْبَةَ بنِ أَبِي مُعَيْطٍ، وَذَكَرَ السَّابِعَ وَلَمْ أَحْفَظْهُ، فَوَالَّذِي بَعَثَ مُحَمَّدًا صَلَّى اللَّهُ عليه وَسَلَّمَ بالحَقِّ، لقَدْ رَأَيْتُ الَّذِينَ سَمَّى صَرْعَى يَومَ بَدْرٍ، ثُمَّ سُحِبُوا إلى القَلِيبِ، – قَلِيبِ بَدْرٍ -. رواه الإمام مسلم.
أما القصة الثانية ، مارأى أبو جهل عندما طرق عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يأمره ان يرد على الرجل ماله الذي اغتصبه منه ، فخرج أبو جهل فزعا وأعطاه حقه، فسأل القوم أبا جهل عن سر المسارعة والامتثال للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم ، فكان جوابه كما ذكره ابن كثير في كتابه البداية والنهاية:
” ويحكم والله ما هو إلا أن ضرب عليّ بابي وسمعت صوته فملئت رعبا، ثم خرجت إليه وإن فوق رأسه لفحلا من الإبل، ما رأيت مثل هامته، ولا قصرته ولا أنيابه لفحل قط، فوالله لو أبيت لأكلني”.
وكما عصم الله نبيه ، حفظ سبحانه كتابه ، حفظه من التحريف ، وأعلى شأنه وجعله معجزة خالدة باقية ممتدة في الزمان ضاربة في المكان، قال تعالى: “إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ” سورة الحجر آية :9.
حرق نسخة منه لا محالة سينبت منه الملايين من النسخ في قلوب المسلمين ، من العرب وغير العرب ، وستزيد قيمة المصحف حتى في هذا البلد ، وغيره من بلاد الغرب، وسيدفع الكثيرين من غير الملة قراءة القرآن الكريم ، بل سيملك عليهم قلوبهم ، ويدخلون الإسلام طائعين غير مكرهين ، يريدون ضرب هذا الدين والنيل من القرآن ، وصاحب القرآن ، ويشاء ربك أن ينقلب السحر على الساحر ، وقد أحسن قولا سحرة فرعون : قال تعالى : ( فوقع الحق وبطل ما كانوا يعملون فغلبوا هنالك وانقلبوا صاغرين وألقي السحرة ساجدين قالوا آمنا برب العالمين رب موسى وهارون ) سورة الأعراف، 118-122.
إنّ هذا الإسلام يا سادة كلما حاربوه اشتدّ، وإذا تركوه امتدّ، وهكذا هو دستور هذه الأمة ، كلما تطاولوا عليه زاده الله انتشارا في الآفاق .
هذا القرآن له رب يحميه، ويحفظه ، ولكنه سبحانه يبتلينا ، لينظر ماذا نحن صانعون؟ وهو الغني العزيز سبحانه ، ولو شاء لقال للنار : كوني بردا على هذا المصحف ، ولكنها حكمته ، فالأمر أمره والتدبير تدبيره ، وكم من محنة في طياتها منح عظيمة ، وخاب ظن الغرب وخسر سعيه، كلمة قالها أبو سفيان قبل دخوله الإسلام عن المسلمين: “كلما زدناهم عذابا يزدادون قوة ” قالها عن اتباع النبي صلى الله عليه وسلم.
وياليت القوم يستمعون لهذا القرآن كما صنع واحدا من سادات قريش ، بعدما أسمعه رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تيسر منه ، ورجع إلى المشركين بغير الوجه الذي تركهم
” فلما جلس إليهم قالوا: ما وراءك يا أبا الوليد؟ فقال: ورائي أني -والله!- قد سمعت قولا ما سمعت كمثله قط! والله! ما هو بالشعر، ولا بالسحر، ولا الكهانة! يا معشر قريش، أطيعوني واجعلوها بي: خلُّوا بين هذا الرجل وبين ما هو فيه، واعتزلوه، فوالله! لَيكوننّ لقوله الذي سمعتُ نبأ؛ فإن تُصِبْهُ العرب فقد كُفِيتُموه بغيركم، وإن يظهر على العرب فمُلْكُه ملككم، وعزّه عزكم، وكنتم أسعد الناس به. قالوا: سحرك والله يا أبا الوليد بلسانه! فقال: هذا رأي لكم؛ فاصنعوا ما بدا لكم!.”
وهذه قصة أخرى تحكيها لنا كتب السِّيرة، قصَّةَ رجل من اليمن من قبيلة دَوس قَدِم مكَّة في العام الحادي عشر من النبَّوة، ألا وهو الطُّفيل بن عمرو الدَّوسي رضي الله عنه، فاستقبله أهل مكَّة قبل وصوله إليها، وبذلوا له أجلَّ تحيَّة وأكرم تقدير، وقالوا له: «إنَّك قَدِمْتَ بلادنا، وإنَّ هذا الرَّجلَ – وهو الذي بين أظهرنا – فرَّق جماعتنا، وشتَّت أمرنا، وإنما قوله كالسِّحر يُفَرِّقُ بين المرءِ وابنه، وبينَ المرء وأخيه، وبين المرءِ وزوجه، وإنما نخشى عليكَ وعلى قومك ما قد حلَّ علينا، فلا تُكَلِّمْه، ولا تَسْمَعْ منه، قال: فواللهِ ما زالُوا بي، حتَّى أجمعتُ ألاَّ أسمعَ منه شيئاً، ولا أُكَلِّمَه حتَّى حشوتُ في أذنيَّ – حين غدوتُ إلى المسجد – كُرْسُفاً؛ فَرَقاً من أن يَبْلُغَني شيءٌ من قوله. قال: فغدوتُ إلى المسجد، فإذا رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم قائمٌ يُصلِّي عند الكعبة، فقمتُ قريباً منه، فأبى اللهُ إلاَّ أن يُسمِعَني بعضَ قوله، فسمعتُ كلاماً حَسَناً، فقلتُ في نفسي: واثكل أمِّياه، والله إني لرجل لبيب شاعر، ما يَخفى عليَّ الحَسَنُ من القبيح، فما يمنعُني أن أسمع من هذا الرَّجل ما يقول؟ فإن كان ما يقولُ حَسَناً، قبلتُ، وإن كان قبيحاً، تركتُ. قال: فمكثتُ حتَّى انصرف رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم إلى بيته، فتبعتُه حتى إذا دخل بيتَه دخلتُ عليه، فقلتُ: يا محمد! إنَّ قومَك قد قالُوا لي: كذا وكذا، فَواللهِ ما بَرِحُوا يُخوِّفوني أمرَك حتَّى سددتُ أذنيَّ بِكُرْسُفٍ لئلاَّ أسمعَ قولَك، ثمَّ أبى الله إلاَّ أن يُسمِعَنيه، فسمعتُ قولاً حَسناً، فاعرضْ عليَّ أمرك، فعرضَ عليَّ رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم الإسلامَ، وتلا عليَّ القرآن، فلا والله ما سمعتُ قولاً قطُّ أحسنَ منه، ولا أمراً أعدلَ منه، فأسلمتُ، وشهدتُ شهادةَ الحقِّ».
وبعيدا عن زمن النبوة ، زمن نزول القرآن غضا طريا، في زمننا هذا ومع نموذج حديث من الذين أرادو أن يشوهوا صورة الإسلام، إنه المخرج الهولندي (ارناود فان دورن) منتج الفيلم المسيء للرسول صلى الله عليه وسلم ؛ قال: كنا نريد تحذير الناس من الإسلام ولهذا السبب أنتجنا فيلم “فتنة” وأسموه باسم عربي حتى يؤكدوا أن العرب أهل فتنة، وأضاف “دورن” أن ردود الفعل على الفيلم كانت كبيرة جداً، ورأه الكثير من الغاضبين والمجروحين والمحزونين ويقول ما أعطاني إحساس أن شيئاً ما غير صحيح فلقد جرحنا الكثير من الناس ولا يمكن أن يخطئ 1.2 مليار مسلم”. وبعد ردود الفعل العالمية والغضب الذي كان على الفيلم توجه “دورن” إلى المسجد ليتعرف على الإسلام أكثر فأخذ مصحفاً مترجماً وكتاب لسيرة النبي عليه السلام. وحكى أنه كان يقرأ القرآن في البداية من باب القدح في الإسلام، ولكن بعد ذلك جاء ليسأل بعض الأسئلة التي أراد أن يعرف منها حقيقة هذا الدين. وبعد أن أهداه إمام المسجد الكتب ليقرأ فيها عاد بعد ثلاثة أشهر مصليا وسطهم في المسجد بعد أن اعتنق الإسلام ونطق الشهادتين. وأكد دورن أن القرآن هو مرشده وأن النظرة عن الإسلام المتواجدة عند الناس هي التي يعطيها الإعلام والسياسيون للناس، ولكن كل شخص عليه أن يتعلم الدين بنفسه.
وأجعل مسك الختام كلمة قالها الدكتور راتب النابلسي بالمناسبة “لوعلم أعداء الدين مجتمعين ، ومتفرقين ، وملونين؛ لوعلموا بعدائهم للدين ضاعفوا قوته ، وضاعفوا الانتماء له، وضاعفوا الحرص عليه، والله تعالى يستخدم الأعداء من حيث لا يريدون ولا يشعرون لخدمة هذا الدين”.
{وَيُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ}سورة يونس 82.
المصدر محمد البدوي