رسالة إلى السيد مدير أكاديمية الدار البيضاء سطات للتربية والتكوين .
سيدي المدير المحترم :
تحية وسلاما .
وبعد ، تستطيع الآن أن تنام قرير العين ، مرتاح البال ، مطمئن الضمير ، بعد أن اتخذت قرار إغلاق واحد من مراكز اللغات بالدار البيضاء . وقعت على قرار الإغلاق ، وأحلْتَ فيه على عدد من تقارير التفتيش التي لم يتوصل المركز بأي نسخة منها ، على امتداد السنوات الأربع التي ظل يشتغل فيها ، كما لم يتوصل بأي ملاحظة من أكاديميتك ، أو أي تنبيه من مصالحها ، أو أي إنذار قبل قرار الإغلاق . وقعت على قرارك دون أن تشير فيه ، بالتصريح أو التلميح ، إلى داع واحد من دواعي قرار مصيري مثل هذا ، أو تذكر فيه حيثية واحدة من الحيثيات الموجبة لهذا التصرف من قِبَلك .
لا يسَعُ المركز ، سيدي المدير ، إلا أن يخضع لأمرك ، لأن الجهة التي نصَّبَتك مسؤولا عن الشأن التربوي في هذه الجهة ، هي التي خوّلت لك حق اتخاذ كل الإجراءات التي تراها كفيلة بحسن سير هذا الشأن في مؤسسات التعليم التابعة لنفوذ أكاديميتك . لذلك لن نطعن في قرارك ، لأن الطعن فيه يعني اتهامك بالشطط في استعمال السلطة التي أُسنِدت إليك ، وأنت منزَّه ، سيدي المدير ، عن تهمة مثل هذه . فأنت تمثل دولة الحق والقانون ، وحاشا لممثل دولة الحق والقانون ، أن ينزلق إلى مستوى الشطط في استعمال السلطة . كيف نتهمك بذلك ، والمادة الثانية من القانون 06.00 بمثابة القانون الأساسي للتعليم الخصوصي ، ولا سيما الفقرة (أ) التي تحدد بتفصيل الحالات الموجبة لسحب الترخيص ، لا ينطبق أي منها على وضعية المركز ؟ كيف نتهمك بذلك ، وأنت لم تكلف نفسك يوما ، عناء النزول من برجك العاجي ، لتزور هذا المركز ، الذي يوجد مقره في قلب حي شعبي من أحياء عمالة مولاي رشيد ؟ كيف نتهمك بذلك ، وأنت ترى بأعين الآخرين ، وتسمع بآذانهم ، وتمشي بأقدامهم ، ثم تكتفي بالرواية الواحدة ، دون أن تتحرّى الصدق واليقين في عين المكان ؟ لو تكرّمت على المركز بلحظة قصيرة من وقتك الثمين ، قبل التوقيع على قرارك ، وزرت موقعه ، وتفقدت فصوله ، وتعرَّفتَ عن كثب ظروفَ اشتغاله ، وحاورت الفئة المستهدفة بالتعليم فيه ، وناقشت هيئة التدريس العاملة في فصوله ، وحضرت جزءا من الدروس التي تقدم فيها ، لرأيت بأم عينيك واقعا ، لا أدري هل نقلته تقارير التفتيش التي أحلت عليها في قرارك بأمانة وصدق ، أم أنها صوَّرَته على نحو يستجيب لحاجات في نفس يعقوب ؟ هلّا سمحت لي ، سيدي المدير ، أن أحدثك عن بعض من ذلك الواقع ، الذي غاب عن رؤيتك الثاقبة ، وبصيرتك السديدة ، ثم أُعَرِّج،إذا سمحتْ أريحيتك الفياضة بذلك ،على بعض من عقابيل قرارك هذا ، وتبعاته ، ولا سيما في شقها التربوي؟
ليكن في علمك ، سيدي المدير ، أن المركز الذي حكمتَ عليه بالإغلاق ، ظل يشتغل لمدة أربع سنوات متواصلة ، استفاد من خدماته خلال هذه المدة ، ما ينيف على مائتي طالب وطالبة ، كلهم أجانب ، ومن جنسيات مختلفة ، كان حافزهم الأساسي ، وباعثهم على الالتحاق بالمركز تعلم لغة الضاد ، والنهل من علومها النحوية والصرفية والبلاغية ، عساها تفتح أمامهم أبواب التوسع في علومها الأخرى لاحقًا . أكمل بعضهم دورات التعلم المقررة في المركز ، فأتاحت له الالتحاق بمراكز أخرى ، أو جامعات أحيانا ، في بلدان عربية شقيقة ، لاستكمال دراستهم فيها . فحاز المركز ، بذلك ، شرف الأخذ بأيديهم ، وتعليمهم أبجديات هذه اللغة ، فعاد كثير منهم من حيث أتى ، سعيدا بما حصله من كسب لغوي ، وما تأتّى له من قدرة على قراءة نصوص عربية ، وفهم مضمونها ، وفتح مغاليقها ، بعد أن كان يقف أمامها عاجزا ، محروما من لذة الدخول إلى حرمات هذه اللغة الشريفة . وكثير منهم ، بعد أن نال نصيبه من التعلّم ، الذي يتيحه المركز ، ما زال يبحث عن آفاق أرحب لتوسيع مداركه ، وتعميق دراسته . وقد كان المركز يطمح إلى فتح هذه الآفاق أمامهم ، مستقبلا ، من خلال توسيع دائرة نشاطاته التعليمية ، لولا حيلولة قرارك دون ذلك .
لست أزعم أن المركز يملك عصا موسى ، أو خاتم سليمان ، ولكنه استطاع ، على الرغم من إمكانياته المتواضعة ، ووسائله الخاصة ، أن يلبي طلبات هذه الشريحة من المتعلمين الناطقين بغير العربية ، ويستجيب لحاجاتهم ، ليكون بذلك من السباقين في هذا المجال . فمما لاشك فيه ، سيدي المدير ، أنك تعلم ، وأنت سيد العارفين ، والمسؤول عن قطاع التربية والتعليم في واحدة من أكبر الجهات في بلدنا ، أن هذا المركز كان من المؤسسات القليلة ، بل النادرة ، التي تشتغل في مجال تعليم العربية للناطقين بغيرها ، وهو الوحيد التابع لأكاديميتك ، وواحد من مراكز معدودة على رؤوس أصابع اليد الواحدة في المغرب برمته . لا أقول هذا لاستدرار عطفٍ ، أو إثارة شفقةٍ ، كما لا أقوله على سبيل الفخر والمباهاة ، ولكنني أقوله لعلَّك تدرك حجم الخسارة التي مُنيَتْ بها اللغة العربية ، بفعل قرارك ، وتعي أن هذه الخسارة طالت بفداحتها ، ما هو أكبر .
وإليك البيان :
كان شائعا بين طلبة الدول الأوروبية ، حتى أمَدٍ قصير ، أن من يريد تعلم اللغة العربية فعليه الذهاب إلى مصر ، أو إحدى دول المشرق العربي . وكان المغرب بالنسبة إليهم وجهة غير معروفة تماما لأسباب لن يفيدك تفصيلها هنا في شيء . ولما بدأت الوفود الأولى من هؤلاء الطلبة ترِدُ إلى المركز ، وتقف على جودة التعلم الذي تتلقاه فيه ، وتنقل أصداء طيبة عنه إلى الطلبة الآخرين ، اتسعت دائرة الإشعاع الذي بثه المركز في مختلف أرجاء القارة الأوروبية ، بل إن بعض الطلاب عادوا من دول مشرقية بعد علمهم بوجود مركز في المغرب ، يقدم خدمة لا تقل جودة عن الخدمات التي تقدمها المراكز الأخرى في الشرق ، مفضلين بذلك التعلم هنا ، لا سيما في ظل الأمن الذي ينعم به بلدنا ، ولله الحمد والمنّة ، وبفضل قربه الجغرافي من بلدانهم في أوروبا . لن أكون مبالغا إذا زعمت أن هذا المكسب الذي حققه المركز الذي وقعتَ ، سيدي المدير ، على قرار إغلاقه ، يمثل نقطة ضوء ساطعة في ظلمة الرداءة التي حكمَتْ بها ، مع الأسف الشديد ، منظمات دولية على المنظومة التعليمية الفاشلة التي تُعَدُّ أنت واحدا من المسؤولين عنها في هذا البلد . ولن أزعم أيضا ، سيدي المدير ، أن المركز الذي بصمتَ على إغلاقه ، يُمكن اعتباره رافدا من روافد الديبلوماسية الموازية ، التي أعطت لبلدنا ، لدى بعض الأوساط الأوروبية سمعة طيبة ، وأسْدَت له خدمة جليلة ، أقَلُّها ما درّته في خزينة الدولة من عملة صعبة ، وما استفادته قطاعات كثيرة من إقامة هؤلاء الطلاب في مدينة الدار البيضاء ، بدءا من السكن ، ومرورا بالنقل ، وانتهاء بالتجارة ، والخدمات الأخرى . فهل أدركت ، سيدي المدير ، إلى أي حد أضرَّ قرارك بمصالح البلد ؟ وهل وعيت إلى أي مدى أسأت إلى اللغة العربية ، وخدمت ، من حيث تدري أو لا تدري ، أجندة جهات ، ظلت تسعى ، حثيثة ، لتقزيم هذه اللغة ، وإقبارها ، وإلغائها من منظومتنا التعليمية ، واستبدال اللهجة المغربية بها ؟ وهل أحاط علمك الواسع بما خلفتَه لدى هؤلاء الطلبة من خيبة أمل وإحباط ؟ ليتك علمت أن كثيرا منهم جاء وبرفقته أفراد أسرته ، أقبلوا كلهم على تعلم اللغة العربية كبارا ، وصغارا . فهل فكرت ، سيدي المدير ، في السؤال الكبير الذي خلّفه قرارك في أذهانهم : لماذا تُحارَب اللغة العربية ، بهذه الشراسة ، في بلد عربي ومسلم ، وفي بلد ينص دستوره على أن اللغة العربية هي لغته الرسمية ؟ هل تستطيع ، سيدي المدير ، أن توضح هذه المفارقة ، وتجيب عن هذا السؤال ؟ لا تستطيع ، ولن تستطيع ، لأنك ، دون شك ، من طينة هؤلاء المسؤولين الذين تدفع بهم إلى الواجهة أحزاب سياسية ، أو تدعمهم شخصيات نافذة في الدولة ، أو تسندهم جهات متحكمة في مراكز القرار ، فيتهافتون على مراكز المسؤولية ، ويهرولون إلى مواقع السلطة ، ويتسابقون إلى المناصب العليا ، ويتزاحمون على الكراسي الوثيرة في المكاتب الفخمة ، حتى إذا تمكنوا أظهروا الطاعة العمياء لأولياء نعمتهم ، والولاء التام لرؤسائهم ، باتخاذ قرارات يعتقدون أنهم يحققون بها السبق ، وينالون بها الرضا . فهل تعلم ، سيادتك ، أن عددا كبيرا من هؤلاء الطلاب ، هم أبناء الجيل الثاني والثالث من المهاجرين المغاربة إلى دول أوروبا ، والذين عجز بلدك / بلدهم الأصلي أن يوفر لهم أسباب تعلم اللغة العربية في بلدان المهجر ، فشدّوا الرحال إليه ، وتحملوا من مالهم الخاص نفقات هذا التعلم ، ولم يكلفوا خزينة الدولة ، من أجل ذلك ، سنتيمًا واحدا ، قبل أن تفاجئهم ، أنت ، بقرار حرمانهم من هذه الفرصة في عقر دارهم ؟ هل تستطيع ، سيدي المدير ، أن تقنعهم ، الآن ، بسبب وجيه واحد فقط ، يجعل الدولة ، ممثَّلةً في شخصك الكريم ، تمنعهم من حقهم في تعلم لغتهم في وطنهم ، بعد أن عجزتْ عن تعليمهم إياها في بلدان المهجر ؟ إن كنت تستطيع ، فافعل .
بقي أن أشير ، سيدي المدير ، إلى أنه في ظل الغموض الذي يلف أسباب إغلاق هذا المركز ، راجت أقاويل هنا وهناك ، وكثرت التحليلات ، وانتشرت التأويلات . يقول بعضها إن أحد الأسباب هو كون الطلاب جميعهم أجانب ؛ وبالضبط من دول أوروبية . ونظرا لما يعرفه العالم من ظروف أمنية مضطربة ، وأحوال غير مستقرة ، فإن المصلحة تقتضي إغلاق المركز درءا لأي خطر محتمل . إذا كان هذا السبب وجيها في نظر البعض ، فلماذا لم يغلق المركز منذ بدايته ، وهو يستقبل منذ انطلاقه طلابا وافدين من دول أوروبية ؟ وحتى على افتراض أن هذا السبب حقيقي ، فلماذا لم يأت قرار الإغلاق من الجهة الوصية على الأمن ، وهي وزارة الداخلية ، كما دأبت على القيام بذلك كلما تعلق الأمر بأسباب أمنية محضة ، وما إغلاق عدد من دور القرآن ، ومن الكتاتيب القرآنية ، من قِبَلِ وزارة الداخلية ، عنا ببعيد ؟ لماذا يحمل قرار الإغلاق توقيعك بالذات ، وليس توقيع أي من ممثلي وزارة الداخلية ، ليكون القرار منسجما مع هذا السبب ، وتكون خلفيته واضحة ؟ أما وقد صدر القرار بتوقيع منك ، فتلك شهادة على أن مبرر الإغلاق تربوي ، ولا علاقة له بما قيل . وما دمنا بصدد الحديث عن المبررات التربوية ، فقد راجت أقوال أخرى ، مفادها أن من أسباب إغلاق المركز ، اعتماده نظام الفصل بين الجنسين في الدراسة . وليس ثمة ، حسب علمي ، نص مكتوب في تشريعنا المدرسي ، يلزم المؤسسات التعليمية بالاختلاط بين الجنسين في فصول الدراسة . وقد مرّ تعليمنا بمر احل من عمره ، درَسنا ودرَّسنا ، خلالها ، في مؤسسات خاصة بالذكور ، أو بالإناث ، ولم يكن في الأمر ما يعيب ، أو ما يخل بأي مبدأ من مبادئ التربية ، وأفرزت تلك المراحل ، ولله الحمد ، أطرا سوية من الناحية النفسية ، تتحمل مسؤوليتها اليوم باحترام تام للجنس الآخر ، دون عقد ، أو شعور بالنقص . وإذا كان المركز قد تبنى هذا الاختيار ، ضمن أسلوب تسييره ، فإنه فعل ذلك استجابة لرغبة المتعلمين والمتعلمات أنفسهم ، ولم يكن شرطا ملزِما لأحد ، أو قاعدة مفروضة على الجميع .
إن المادة الرابعة من القانون المشار إليه أعلاه تنص على أن كل إجراء إداري يُتَّخذ بمقرَّر معلّل لمدير الأكاديمية ، غير أن مقررك جاء غامضا ، وخُلوًا من ذكر الأسباب التي حملتك على إغلاق المركز ، الأمر الذي فتح أبواب التأويلات على مصراعيها ، وجعل التفاسير تأخذ طرائق قِددًا ، سقتُ ، هنا ، بعضها ، وربما تناسلت بين الناس أسباب ومبررات أخرى ، تتحمل أنت وأكاديميتك مسؤوليتها . أقول قولي هذا ، لا لأستعطفك للتراجع عن قرارك ، فقد وقعتِ الفأس في الرأس ، وعاد الطلاب أدراجهم إلى بلدانهم ، يحملون خيبتهم معهم ، لتُنسَج من جديد في مخيلتهم ، ومخيلة أبنائهم ، صورة قاتمة عن بلد يجمع المتناقضات ، ويتولى فيه مسؤولية الإشراف على الشأن التربوي أشخاص يتباهون بعدد المؤسسات التي أغلقوها ، بدلا من المؤسسات التي فتحوها . أقول قولي هذا ، لأدعوك ، سيدي المدير ، وأدعو كثيرا ممن هم على شاكلتك في هذا البلد ، إلى التفكير بأناة ، وتجرد ، ومسؤولية ، قبل أن تخُطّوا على الورق جرّة قلم ، يمكن أن تجرّ عليكم ، وعلى المواطنين ، وعلى البلد برمته ، الكثير من المآسي ، قد تبقى آثارها سنوات ، وسنوات . اللهم إنني قد بلّغت ، اللهم فاشهد .