في زمن الصمت البيداغوجي
بدأت الظلمة تحن إلى وكرها ، والسواد إلى الوانه ، والليل شرع في مسابقة النهار ليرخي سدوله على بسيطة أتعبتها خطايا الأنسان والبشر. بسبابته اليمنى ضغط على احد أزرار التلفاز تضامنا مع السواد ليتخذ لنفسه فسحة في حديقة الظلام حتى يتسنى له تخليص جسمه من ركام الملابس الذي لازمه لأسابيع ، وسط صمت الظلام ، وسكون الحركة ، تمكن الوزاني من تهريب جسمه ذو اللون الكوكايني لشدة فقره وفقر دمه إلى السرير الذي احتضن أولى لحظات التيه . بين بياض الجسم وسواد الغرفة تسللت الأحلام الوردية إلى المنصة الشرفية لتأخذ مكانها ضمن الفرقة الموسيقية التي ستعزف طوال الليل الأنشودة الصماء تحت إيقاع الكلمات الخرساء . ومن جوف الصخب المزعج ، انتفض الهاتف في وجه الضوضاء العارمة معلنا انزعاجه و قلقه من فوضى الألحان المختل نظامها ، حيث صوب فوهة مدفعه نحو مصدر الأصوات الغريبة التي اكتسحت فضاءه السمعي و عكرت عليه صفو سباته العميق ، لكون سكون الليل وانقطاع صلات الأرحام فرصته الزمنية للخلود إلى الراحة ، كانت أولى شرارات دفاعاته ضد الأصوات التي اخترقت مجاله الجوي اطلاق رنات مدوية لتدك مسامع صاحب السنفونية الغريبة وتشل دفاعاته الأمامية ، على هول الطلقات المتتالية والرنات الصاعقة توقف العرض الموسيقي الصاخب و استسلم على إثره القائد الوزاني للذبذبات الهاتفية و سلم سمعه طواعية و بدون مقاومة إلى السماعة الصوتية .
ــ الوـ الو… الوزاني لقد أصبحت موظفا أستاذا إن اسمك ضمن قائمة الناجحين مبروك .
إنها لحظة التحول ، لحظة ادرك النهار الليل والنور الظلمة و انقشعت العتمة و من بين خيوطها القاتمة تنفس صبح المستقبل وسقط جدار الخوف و من حجره المتهاوي تمكن الوزاني من بناء صرح بجندل احتضن الزوج و البنين و من أتربته المتراكمة على ارض الأمنيات صنع لدراجته جسر عبور من الدار الى المدرسة .
ومن كثرة الغبار الصاعد والنقع المتطاير وعلى غفلة من الأستاذ الوزاني تمردت العجلتان على الروتين القاتل لتسلك به فجاج الطريق المعبد و لتنعما بالملمس الرطب و تستمتعا بالوجوه الناعمة و المباني الإسمنتية وتسعدا و لو للحظة بعيشة راضية بعد أن أتعبتها مسالك المجموعة المدرسية . عرفانا بالجميل و بالأنس الطويل والمعاشرة التي دامت سنين قرر اصطحاب عشيقته إلى مصحة الدكتور المختص في معالجة الدرجات الهوائية ليجري عليها فحوصات روتينية تفاديا لبعض الأمراض المزمنة كارتفاع الضغط العجلي وحالات الربو المزمنة و في انتظار استكمال الإجراءات الطبية الاحترازية تسلل الوزاني بين دروب وأزقة المدينة الضيقة ، مدينة الغبار و مباني الدخان و مطاعم التمر و الحشف البالي ليجد نفسه أمام ساحة مترامية الأطراف ركحه الأيسر تؤثثه أصوات بهائمية ترفع شعارات أشبه بالمطالب الآدمية تجمهرت و بدون سابق إنذار لتعلن و بمناسبة اليوم المحلي للسوق البلدي رفضها المبدئي والمطلق للظروف الصعبة التي تعيشها مطالبة بسن قانون تخفيض الحمولة والرفع من الحصة الغذائية والتمتع بالعطلة السنوية واجتناب السلوكات العدوانية والتحرشات الجنسية و مخافة ان تنتسب إليه تهمة المشاركة والتحريض على التظاهر بدون ترخيص انتقل صاحبنا و على عجل إلى الزاوية اليمنى من السوق حيث لامس المفهوم الحقيقي للانفتاح على الثوب الأخر ثوب الهند والسند والصين و جنوب الصحراء ، أثواب بألوان قزح انتظمت أمام الحانات بنظام و انتظام حتى يكاد يخيل للمرء انه أمام احدى مباني أمم الأثواب المتحدة . و بمحادة شركة الأثواب المتعددة الجنسيات أخذت أصوات باعة البراد و المصباح ومزهرية الوردة و حقل السنبلة و غابة الغزالة و الأسد البلاستيكي الزائر ومجسمات الكتاب و القلم ترتفع عساها توقع بين خيوطها العنكبوتية مشتريا يكسر العزوف و يشجع الإقبال على صناديق الشاي بأنواعه الستة و الثلاثين و القابلة للتناسل في زمن عقم أصحاب المتاجر الكبرى .
شمس سوقنا البلدي ضجرت ضوضاء العباد وشعارات البهيمة فلم تجد بدا عند الزوال من إرسال تعزيزات أمنية حرارية لتفريق الجموع المحتشدة ، وأمام اشتداد الضربات الشمسية وضعف المقاومة البشرية في مواجه الضغوطات الإشعاعية اضطر الوزاني العودة إلى المصحة قصد مصاحبة رفيقته إلى المنزل و تخليصها من ضجر الإسمنت وعدوانية الإنس و غضب الشمس وأعين الحساد .
ممتطيا صهوة جواده ، حاملا روحه على متن نعش حديدي يشيعها الى متواها الأولي قبل الأخير. لم يكن في استقبال عودتها سوى الوجوه التي سئمت صمتها و الفت ابتسامتها الماكرة واعتادت طقوس استغوارها في أعماق التحضيرات الليلية للمستويات المتعددة .
طقوس تجلس الوزاني إلى مائدتها السحرية وأسفارها البالية لتعلمه ليلا منطق الطيور و مخارج الحروف و لغة الحيوانات و انتظام الكلمات و أشكال توزيعها على قمة الجبال و سفوحها ليسحر بها نهارا أعين شاءت الخريطة و أرقامها ان تكون القاعة الواحدة موطنا للصغار و الكبار تميزهم سنوات الاحتجاز وتجمعهم درجة الصفر في الكتابة والقراءة و الحساب .
في غمرة التحاق الأنيس بركب النيام لم يؤنس الوزاني في وحشته سوى أسماء جذابة و لامعة لمراجع نخباء تبحث عن عناوين لقراء فقدوا صلتهم بدار القراء و من رحم هذه الكتب الجوفاء يشرف الوزاني باعتباره أستاذا للحراسة الليلية على التأريخ لولادة تحضيرات تتولى كل من هند و سلمى و فدوى وموئل و الطائر توتو على تقاسم أدوار الرعاية الليلية لكون الكعكة تعشق صمت القسمة .
على نغمات جرس هاتفه خلص الأستاذ و بمشقة جسمه من بين ذراعي الكرى الشديدتين مستفتحا برنامجه الصباحي ببث مباشر عبر ارسال تعزيزات غذائية سالكة معبر المريء صوب جوف معدته وعلى شبعها استفاق أعضاء المجلس الجسدي، وبعد أن دبت الحياة في مختلف مرافق حياته الخاصة استدرج دراجته من حيث لا تدري إلى الفضاء الخارجي و لم يكن في استضافة استفاقته المبكرة سوى حشود من الكلاب الوسيمة و القطط الجميلة والتي انشدت بطلعته الميمونة أنشودة المعلم الذي كاد و لم يكد . وسط زغاريد وهتاف المستقبلين غادر صاحبنا إقامته متوجها نحو مقر عمله محملا بمحفظة سوداء بداخلها أوراق اعتماده باعتباره سفير النوايا الحسنة في مملكة التدابير الأولية . وأمام الأعمار المتفاوتة والأوزان المختلفة والقابلية المنعدمة و الأبصار الشاخصة ادخل السفير يده اليمنى داخل العلبة السوداء ليرفع الستار عن الشخصيات السامية لتلعب الأدوار التعبيرية كما حددتها الليلة الماضية أمام جمهور يتقن صنعة الاستماع و تتعذر عليه مهارة التعبير .
انعدم التوافق و استحالت الملاءمة وتعذر التكيف وانهار الحوار الاجتماعي مما عجل بفشل الإخراج و استياء المخرج و رسوب لغة الممثلين ونجاح صمت المتفرجين ، ومن رحم التقويم السنوي لمقررات الصمت البيداغوجي توج الصامتون بجائزة التميز و بالصمت هنأ السفير صمت الصامتين و الساهرين على تدبيره بالملايير .
مقتطف من مشروع رواية تحت عنوان :
“في رحاب محنة إعادة الانتشار”في انتظار طبعها نود إشراك قراء المستجد التربوي “محنة الوزاني مع مذكرة إعادة الانتشار”