مازلت أتذكر.. قطعة من الماضي !!
أنس الكرماط
تلميذ بسلك أولى بكالوريا بالتعليم الثانوي التأهيلي
بثانوية عبد الله العروي التأهيلية – نيابة فاس
مازلت أتذكر.. قطعة من الماضي !!
كانت الساعة تشير إلى السابعة مساء، وكنا نحن-الأتراب نلعب بأقصاب السكر ونصنع منها الدُّمى القصبية، في قريتنا الصغيرة التي لا تبعد قليلا على مروج الحقول.. كان هندامي ملطخ بألوان الصباغة أمسك الدُّمى في حبور وأضعها في قصع لكي تصبح في لون أبهى، أنهينا اللعب وتوجهنا وفي وجوهنا لون البراءة الذي يوحي بالحياة.. في هذه الهنيهة وأنا قرب منزلنا الريفي الصغير سبحت عيْنَايَا إلى سيارة كبيرة قادمة بسرعة كالبرق تخلف وراءها مثار نقع كالبحر.. لم أكن أظن أنها ستقف أمام بيتنا الطيني إذ خرج منها جندي طويل النجاد، حينها تسمرت عينايا حين دخل مسرعا إلى ردهة البيت غمغم بصوته ثم قال: عفوا يا سيدتي رقية على إزعاجي، جئت محملا بخبر حزين من الميدان.
نظرت أمي نظرة ملهفة وكأنها كانت تعلم بما حدث، سكت الجندي قليلا ثم قال زوجكِ السيد “عبد الله” رحمه الله و رزقي الله الصبر والقوة.. إنه كان من أعظم الرجال في المعركة قوة وأكثرهم شجاعة وأحسنهم خَلقا وخُلقا، إذ كان يردد طوال أوقاته “سامي وحده” فتنهمر دموعه فرقا على أسرته.. وقفت أمام الجندي فانحنى مُقبلا جانبي وقال: مات شهيداً رحمه الله تعالى وغفر ذنوبه.. ستكمل خطاه حين ستصبح شاباً يافعا تدافع عن وحدة وطنك بالغالي والنفيس وتحميه من الخونة والمفسدين..
في حارتنا..
يحكى في حارتنا منذ سنوات طوال عن قصة من القصص التي وقعت قدماً وثم نسجها عن طريق أحجية يخبرها الحكاوتي في مجمعه، ويقصها الجد ﻷحفاده، ويرويها الصياد للعابرين.. هي قصة من القصص الواقعية لا تشبه قصص الرعب التي تروى عادةً للأطفال أو تحكى للدعابة، بل هي عبرة لكل نمام يلهو لسانه بلا توقف وأيضا لكل خائن يخون أحبته.. قيل إن كان هناك رجل يدعى “هاشم” يعمل حدادا في أحد الاسواق التي لا تبعد بعداً عن منزله الصغير، يخرج وشروق الشمس ويعود في مرقدها إلى البيت متعبا كوطن أرهقه الاحتلال، عند دخوله يومياً تصحو زوجته “رقية” الثرثرة التي لا تكف عن الكلام سوى دقائق فقط، كانت زوجته تناديه دائما: “يا أيها الساذج الاخرق لا تعرف شيئاً سوى ملاحقتي…”
طأطأ رأسه كالعادة ودخل إلى الغرفة رغبة في أن يخلد إلى النوم بعد تعب طويل، مرت الأيام ورزق الصياد برضيع يترعرع في كنف أسرته، ويترعرع وسطهما.. خرج الحداد كعادته في أحد الأيام متوجها إلى العمل إذ به في طريقه وجد كيسا أسود اللون يصدر منه صوتا شبيها لشبابة ترنو ألحانا حزينة، اقترب منها رويداً وفتح الكيس ويديه المعروقتين تصطك خوفا منه، فوجد صبيا يعادل عمر ابنه الصغير يكاد وجهه الرخامي الأبيض يختفي خلف براءة الأطفال الصغار ‘مسكته ومسكني ذعر … تساءل الحداد المسكين: أين ألجأ به في هذا الصباح الباكر؟.. فكر كثيرا ثم لم يتردد حمله إلى منزله رفقا به دخل إلى بيته فسبحت نظرات زوجته الشريرة وبدأ صراخها يملأ الكون صداعا..
قالت غاضبة :من هذا الصبي؟ أجابها بصوت خافت: حين دببت إلى العمل صباحا وجدته ملتما في كيس أسود، ضحكت ساخرة من قوله، فأجبتُه أنت تكذب !! من قال إنه ابنك ومن صلبك؟
نظر إليها وفي عيونه نهر من الدموع تحاول أن تصب في محيط هادي.. سكت كالأصم كما لو أنه لم ينطق بكلمة منذ نعومة أظافره وخرج وفي يديه الصبي متجها نحو المجهول.