مدرستي الحلوة
مراسلة : ذ. طارق الوفي
منذ سنوات وأنا ألج المدرسة كل يوم وما إن أنظر إلى فصولها وجدرانها وألوانها وطاولاتها إلا وتصاعد مع أنفي تلك الرائحة التي كانت فيها أيام الدراسة الأولى وما عادت, حتى الأقسام كانت فيها مسحة خاصة، غير تلك المسحة الكئيبة التي توجد عليها أقسام اليوم. إلا وتذكرت اللحظات الجميلة التي نقضيها فيها ونحن نتعلم الحروف والدروس والأخلاق وما عادت؛ إلا وينتابني الحنين إلى ذلكم العصر الذهبي.كنا جيلا بمعنى الكلمة نحمل الكتب والمقررات الخاصة باليوم كاملة وبعضنا يحمل كتب حتى الأيام الأخرى دون أن يكترث لثقلها أو يفكر في ذلك ولو لحظة.جيل تربع على (الهيطورة) لإعداد التمارين واستأنس بإنارة الدرب العمومية لإعتكاف على العريضة الطويلة والعقوبات المفروضة علينا نتيجة تقصيرنا في فرض من الفروض أو قصيدة ما ولا يزال صداها الآن في قلوبنا كيف نستظهرها ونحن نرتعش أمام مدرسنا.
مشينا الشتاء كله بحذاء أخينا أو أبينا أو حتى أمهاتنا وكان الثلج والبرد ينعشنا ونحن نقضي الساعات الطوال للوصول إلى مدرستنا بين التزحلق على جليد (الساكية) أو ينابيع (قادوس) منزل من المنازل نداعب تلك القطرات ونُزيح عن الأرض الطين لتمر المياه.ونحتمي من الأمطار والبرد القارس ب(الميكة)متناسين قساوة الظروف.
وما إن نصل إلى القسم حتى نجد المدرس يُعد لنا الفرن خلف الطاولات في ركن فنسرع لتقديم التحية للمعلم ونقبل يديه ورأسه بكل فرح ونجتمع لدقائق أمام الأوراق التي جمعناها ورميناها لتوقد الحرارة في أجسادنا النحيفة.
ومشينا الصيف جُله نعانق الظل نميل حيث مال ونتمدد أو نتقلص حيث هو كذلك.قنينة باهتة مغطاة بثوب قميص خشن مدلل بالماء تبثها الأم جانب (الشكارة) ونعيدها في المساء إلى المنزل كما أتينا بها لأننا نخشى أن نشرب الماء والمعلم في القسم أو حتى في الساحة.هيبتهم كانت ولا زالت لم يصنعوها ولكن استحقوها.
لحظة الدخول إلى الفصل هي كذلك لحظة الانبهار والدهشة كأنها لوحة فنية رُسمت بأنامل من ذهب. صف للذكور وصف للإناث ويد على الكتف ونردد ما يُلقيه المدرس بحناجر تكاد تخرج من أصلابها بحماس شديد.
الاستراحة تمر بين شرب الماء وأخذ قسط وافر من الضربات والركلات من طرف تلاميذ المستويات الأكبر منا نتلقاها بكل ترحيب وتهليل لأننا بدورنا نُمدها لم دوننا.
وها نحن نستشعر لحظة قرب دق الجرس نجتمع أمام القسم ونفتح دائرة ونردد (افتحي يا وردتي اغلقي يا واردتي) يسمعها المار بجانب المؤسسة ويطل بكل سرور ويتابع مسيره وكله ثناء واستحسان.
كنت أحب لحظة الخامسة زوالا عندما يقترب وقت الخروج المعلمة تأخذ (البوماضة) وتضعها في جوف عيوننا بكل ثقة ومحبة.كانت لحظات بريئة وجميلة.
ما إن يرن وقت الخروج حتى نسارع إلى اغلاق النوافذ ومسح السبورة وجمع الأوساخ وأنا أسارع إلى المدرس قاصدا يده أُقبلها_وهي التي أشبعتني ضربا قبل لحظات ولا يخفف عني من آلامها سوى حديد الطاولة البارد_ فأحمل عنه حقيبته الثقيلة إلى أمام منزله البعيد.وعند العودة نقبل يد الشيخ الكبير ونعين الضعيف ونلعب مع الصغير ونسرع إلى البيت متمنين أن يكون الأب لم يعد بعد لننعم بلحظات رسوم كونان أو ماوكلي أو صاحب الظل الطويل…
حقا كنا جيل 9 أشهر ذهابا وإيابا على أرجلنا إلى المدرسة,جيل لم يتعلق سوى بأمه، جيل لم يدخل الهاتف معه أو غيره إلى المدرسة، جيل الشعر والقصص والمغامرات والمسرحيات …