مَخاطرُ الهَرْطقة النَّقابية في التّعليم المغْربي
محمد بوطاهر – 14 فبراير 2018
ليس من قبيل الصّدفة أن يكون إذن السّماح للمغاربة في الانخراط النقابي والحق في تأسِيس التجمعات النقابية مُزامنا لتاريخ استقلال البلد. فصُدور ظهير 12 شتنبر 1955م وما تلاه من التشريعات التنظيمية التي تشجع العمل النقابي وتزكي تعدديته، يُوحي بجدارة أنه انجاز متحكم فيه ومسيرّ وفق حاجات مخصُوصة. و إذا علمنا أن المحاولات الأولى للفعل النقابي في المغرب كانت منذ 1936م، فإننا نؤكد الزعم المفترض الذي أفرغ هذه الاطارات النضالية من جزء كبير من مُحتواها منذ البداية، وهي العلة نفسها التي يحتفي بها كثير من أزلام بعض النقابات المغربية اليوم، في مُمارساتهم المنبطحة والمتزلفة للنظام ومدبري الشأن في مختلف المجالات. وأفضَعها في الشأن التعليمي.
الجميلُ في هذا الزمن النقابي المنحَطّ، هو أن لغة الخشب والمعاني الحماسية السّفسطائية لم يعد لها وجُود هادف، وبالتالي أصبح ما في الجعبة كلها قاب قوسين أو أدنى من أن تكشف عورته، فأزمة العمل النقابي في المغرب الآن واضحة فاضحة. ولعل أولها – والذي تلوكه باستمرار العامة- ضعف الاقبال أو التنقيب والتشتت النقابي وما يترتب عنه من تفريخ اللجان المشبوهة خارج الاطار النقابي الرّسمي و محاربة الرّموز والقيادات وتسْفِيه نِضالاتهم أمَام الجماهير السَّكرى بما هُو مادي ومصْلحي، فضلا عن مُعاداة النقابات من الدّاخل من طرف اللوبي المخزني وادماج العديد من مُناضليها داخل رحَـــى الباطرونا التي صنعنتها الدولة من دُمَاها لكي تطحن بشراهة دماء المعدمين فلا تبقي ولا تذر منه شيئا.
كلّ هذه المعيقات المتأزمة وغيرها الآن مكشُوفة، و لا تجب أن تدفعنا دفعًا الى الاحساس بالسّواد واليأس ودُنو الباب المسْدود، لأنها تحصِيل حَاصل ونتيجة حتمية لمخططات قبلية وتغيرات عالمية كبرى، لكن في مقابل ذلك يلزمنا الاشتغال على تضميد هذه الجُروح العديدة التي نلمسُها في زمننا الحاضر، والتي تتوهجُ دماؤها من جديد بفعل شذوذ نقابي خطير، سَنُحاول في ايجاز أن نقاربه مقطعيا ونوعيا من خلال تبْئيــر عدسَة نقاشنا المتواضِع على تجليات شذوذه في قطاع التعليم.
إذا انطلقنا من المحطة النضالية الأخيرة ليومه هذا الأربعاء، سنلفي أن نفرا عريضًا من مُوزظفي التعليم لم ينخرطو في خطوة الاضراب العَام، لِذرائع نُجملها في شِقين: الأول مُرتبط بهشاشة الاطارات النقابية التي استوتْ على بعْض مكاتبها كائنات اجتمع فيها ما لايجتمع؛ النطيحة والمتردية وبالتالي فهي تفتقد إلى الكفاءات القمينة بالتدبير الجيّد للعمَل النّقابي، وتوسِيع شُعاع الوعي بأهميته، ثمّ هي في أحْسَن الأحوال لا تستطيع إنتاج قطيعة مع طابُو التّطبيع أو الخَوف الذي نسجُوه مع نظام الدولة، حيثُ غدت بعض الاطارات النقابية أذرعا بديلة لأبواق المديريات والادارات؛ تأتمرُ بأمرها وتحبُو بإرادتها. ولعلّ تنغير باستثناء الكدش، خير نمُوذج ناجح في ذلك المجال. إذ أصْبح العمل (النقابي) عند بعضهم مُمخزنا أكثر من المخزن نفِسه. يُضاف إلى ذلك غيابُ البرامج النّضالية الآتي جَدلا من ضعف القادة وركونهم للأوامر والخيارات السَّهلة التي لا تزيدُ الطين إلاّ بلة.
ثم شقٌ ثانٍ، يرتبطُ بما هُو ذاتي تكويني في شخصِية أستاذ اليوم، حيث تتربع الانتهازية والخوف من الاقتطاع تاج المعاذير الواهية التي يُحاول هذا الصّنف من أشباه الأساتذة أن يختفي وراءها، وقد سبق لي الاشارة في مقال سابق كتب إبان إضراب نونبر من هذا الموسم إلى ان هؤلاء يتّصفون بالحذلقة وكثرة الكلام في التشخيص والتفصيل في المقاهي وغُرف نومهم فقط، لكن في ما هُو عَملي ميداني تراهم يدخلُون جُحورهم (قاعاتهم) كالفئران المذعورة، وهُم على أية حَال كائنات لا يُعوّل عليهم في جد أو هزل، وإنما أعجاز نخل خاوية أوْجَدتهم الدولة ويسَّرت لهم سُبل الولوج إلى هذا المجال دون كفاءة ولا دُربة ولا حِسّ أخلاقي، بل مِنهم مَنْ رشا وقدّم ماله وجسَده قُربانا لولوج التعليم، فكيف إذن نقارنهم مع جيل ذهبي تقدُّمي حَارب بشراسة ضِد تسْليع المدرسة المغربية والمسّ بكرامة رجال ونساء التعليم.!!
صحيحٌ أن أزمة العمل النقابي التعليمي الآن، آتية من غياب الوعي التّقدمي اليَساري تحديدا عند هذا اليَاجُوج الأعْرج، فهو الوقودُ الصّافي لتحريك عجلة الاحْساس بالذات والانسانية وكرامتهاـ وما البصِيصُ الصّغير الذي نراه اليوم ما زال ينبض عند بعض الاطارات النقابية الكُبرى التي تُحمدُ لها شجاعتها في خوض إضراب اليوم الأربعاء بجدارة وبنسبة نجاح تتجاوز 75%، إلا من نتاج الفكر التقدُّمي الحُر الحَامل للنّضج والحُقوق والديمقراطية النزيهة التي تبتعدُ أمْيالا عدِيدة عن الفكر الديني المتخَوْنج، الذي عَثا في البلاد فسَادا مُنذ 2011 م إلى حُدود اللحظة.
إن مَسْألة التشخيص الآن لم تعُد ذات جَدوى، وما السّبيل الأوحَد للخُروج من أزمة هذه الأزمة المتأزمة، إلاّ في مزيد من التّوعية بخُطورة النقابات الأشبَاح المتمَخزنة، والعَملِ على الالتفاف حول الاطار النقابي الصّحيح الذي لا يُتصور نِضالٌ دون يافطته، وما التذرع بالتنسيقيات واللجان وما شابههما من أسَامي المُراهقة النضالية إلا ضرب من الضَّعفِ وعُسْر الفهم، بل وعجز عن القيام بالتغيير الصحيح من الداخل، فهُو سِلاح الجُبناء ذوو السِّمات المزدوجة التي ذكرناها في الشق الثاني، والتي سَتجعل أسْرابا كثيرة مِنهم في المُستقبل القريب، عبيدا في المؤسّسات التعليمية ينهون دَوامهم اليَومي ثم يعرُجون إلى تنظيفِ مكاتب الإدارات ومَراحِيضها.
يُضاف إلى ذلك بناء قناعات ثابتة تبدأ أساسا من صَون الكرامة والمكتسبات السّابقة والذوذ عن حُرمة المدرسة المغربية ومجانيتها، مع فسْح المجال أمام الطاقات الحقيقية لتبدع في تدبير المسْؤولية والسّعي نحو تحقيق أهداف العلم والتربية بشكل عام، بعيدا عن النظرة القزمية التي يُسَوقها العديد من كائنات التعليم؛ مُدرسين ومُديرين ونقابيين حَول هذه المنظومة الثكلى التي اسْتوطنها الأغراب الأباعد، الذين نسْألُ الله تعالى أن لا يحْشرنا مَعهم يوم القيامة بحُرمة مَا ابتلانا بِشرّهم في هذه الحَياة الدُّنيا.